ضباع المدينة

ضباع المدينة لا ترى أثرا للدماء على وجوهها، ولا تنام وتصحو في الغاب، لكنها تتفوق على ضباع الجبال خبرة ويدا طويلة وقدرة فائقة على الحفر والدفن والدعاء على الضحية.
الخميس 2022/01/20
حيثما وليت وجهك فثمة ضباع للسياسة

حين كنا صغارا كنا نسمع قصصا كثيرة عن حيوانات يمكن أن تختطفنا إذا خرجنا من المنزل ليلا في ريف محاط بالجبال. وكانت تحاك حول الضباع قصص عجيبة منها أنها تجري مثل البرق، وأن لديها سحرا خاصا يفقد الفريسة القدرة على الحركة حيوانا كانت أو بشرا.

لكن أغرب تلك القصص أن الضبع إذا وجد إنسانا نائما في مكان قصي، فإنه يتحسس أنفاسه مثل رجل إنقاذ، فإذا تأكد أنه حي يحفر حفرة كبيرة إلى جانبه دون ضجيج، ثم يلقيه فيها ويأكله براحة بال بعد أن قيد حركته.

هي أساطير وحكايات قديمة تصنعها الذاكرة الشعبية لقياس أعمال الحيوانات وذكائها وقدرتها على ضمان قوتها مع واقع البشر، وكيف أن الحيوان يقرأ حسابا لكل التفاصيل فيما الإنسان يندفع لتحقيق مصلحته دون مراعاة أي شيء.

ضباع الجبال اختفت من حياتنا ولم نعد نراها سوى في البرامج الوثائقية، لكن ضباع المدينة صارت بأعداد كبيرة بعد أن لبست الأقنعة، وأخفت أنيابها الحادة، واستمرت بالحفر دون توقف للإيقاع بمن حولها.

هناك ضباع تلبس لباس التقوى والورع وتحث الناس على الفضيلة من أجل تنويمهم بطريقة سلسة فيقبلون ما تفعله دون سؤال. وكثير من التجار يحملون هذه الخصائص، فليس أنفع لديهم من كلام الوعظ والإيحاء بالنزاهة ونظافة اليد مدخلا لاحتكار السلع وزيادة الأسعار والتهرب خاصة حين تغيب الرقابة وتغيب الدولة التي لم تعد تهتم لتفاصيل الناس بعد أن غرقت في صراعها مع ضباع السياسة والاقتصاد ورجال الإدارة الذين لا ترى منهم سوى الابتسامات الصفراء.

حيثما وليت وجهك فثمة ضباع للسياسة تحفر على المكشوف وتدفن ضحيتها ثم تقنعك بأنها الضحية.

وضباع أخرى تكتب الشعر والرواية والقصص القصيرة وترسم لوحات أخاذة، ضباع مرهفة الحس والذائقة لا تشعر بأنها تحفر ولا تتخيل أنها يمكن أن تحمل معولا أو رفشا أو تقوى على تحريك التراب، لكنك تسمع أخبارها هنا وهناك في ميدان يقال إن الضباع تتحرك فيه زرافات زرافات.

وترتع فصيلة خاصة من الضباع في مجال الصحافة، لا تستطيع أن تفرق بين ضبع شارف مسن يكتفي بالجلوس في مكتبه الوثير، وضباع صغيرة تنتشر في الأرض بحثا عن أخبار خاصة ليست بالسبق الصحافي التقليدي، ولكنه سبق تشبع فيه نهمها إلى تفاصيل حياة زملائها ممن فتحوا طريقا للنجاح.

ضباع المدينة لا ترى أثرا للدماء على وجوهها، ولا تنام وتصحو في الغاب، لكنها تتفوق على ضباع الجبال خبرة ويدا طويلة وقدرة فائقة على الحفر والدفن والدعاء على الضحية.

20