موسيقى الشارع في تونس عودة متعثرة إلى إرث قديم

تتنوع فنون الشارع في مختلف البلدان العربية من موسيقى وغرافيتي ومسرح وغيرها، ولكنّ هذه الفنون لا تلاقي الترحيب دائما، خاصة الموسيقى، التي يلاحق فيها الشباب المبدعون من العازفين ومقدمي الوصلات الموسيقية في الشارع بنوع من النظرة الدونية والتهميش وإلصاق تهم مجحفة في حقهم مثل التسوّل.
موسيقى الشارع في المدن العربية تطل برأسها من حين إلى آخر، وهي خجولة ومترددة وسط استهجان واستنكار بعض المارة وأصحاب المحلات التجارية من جهة، وملاحقة وتضييق رجال الشرطة من جهة أخرى.
الغريب في الأمر أن هذا اللون من فنون الفرجة والترفيه ليس غريبا على معظم الشوارع والساحات العربية في أزمنة سابقة، فهل غاب واختفى في أزمنة التشدد الأمني والمجتمعي، ليعود خائفا ومترددا إلى فضاءاته التقليدية إبان موجة الانفتاح النسبي الذي شهدته بعض البلدان العربية، وكأنه بدعة مستوردة لا علاقة لها بثقافة العمق الاجتماعي.
ظاهرة مستهجنة
ظاهرة فن الشارع تنتشر يوما بعد يوم لكي تصبح بديلا أمثل لثقافة العروض داخل القاعات والفضاءات المغلقة
إذا ما فصلنا أو تناسينا العصور القديمة التي كانت تقام فيها مختلف العروض كظواهر احتفالية من موسيقى وغيرها في الأسواق والتجمعات الدينية والتجارية فإن فنون الشارع عموما، والتي أخذت طابعا احتجاجيا على وجه الخصوص، تعود بدايات انتشارها كظاهرة فنية في أوروبا إلى مطلع القرن الماضي، أما ظهورها الأول عربيا فكان في الجزائر قبل استقلالها عن فرنسا.
ورغم مرور عقود من الزمن إلا أن التجربة العربية ما زالت خجولة ومتعثرة في فن موسيقى الشارع. ويوصم هذا اللون من الفن بـ”موسيقى الفقراء” لا على سبيل التحبب والتعاطف بل لارتباطه بالتسول في نظر قسم كبير من الناس.
هذه النظرة الدونية رافقتها الملاحقات الأمنية أحيانا بحجة عدم وجود ترخيص مثلا، مما جعل موسيقيّي الشوارع يعزفون مبكرا عن هذا الفن خشية هذه الرؤية الظالمة، إذ لا يقف على قارعة الطريق إلا المتسوّلون في نظر قسم كبير من الناس.
أما الأدهى والأمر، فإن غالبية هؤلاء الذين يستهجنون عروض الشارع ويصفون أصحابها بالعطالة والبطالة المقنعة حينا والشغب والاستلاب الثقافي حينا آخر، ينظرون بعين الاحترام والتقدير إلى أقرانهم في المدن الغربية في نوع من ازدواجية المعايير والكيل بمكيالين.
الشارع العربي ما زال متجهما وعبوسا بطبعه، وتحت تأثير جملة هموم ومشكلات فردية واجتماعية، بالإضافة إلى المخاطر الأمنية والصحية التي زادتها جائحة كورونا حذرا وتضييقا. وكان لا بد من متنفس للأمل وإقبالا على الحياة أمام محلات الترفيه المغلقة بحكم البروتوكولات المتخذة، فجاءت موسيقى الشارع كوسيلة للترفيه وبث مشاعر البهجة والسرور، فلماذا يتم استكثارها على هذا الكم الهائل من الوجوه المكفهرة؟
ثقافة بديلة
وبحكم “وفرة العاطلين عن العمل” من الشباب الجامعي الذين امتلأت بهم المقاهي كما تمتلئ مراكب الهجرة السرية، لجأت فئة من العازفين والمغنين إلى عرض فنونهم في الشوارع أسوة بأقرانهم من بلدان الضفة الأخرى، إلا أنهم يظلمون على أكثر من صعيد، فلا السلطات المسؤولة منحتهم التراخيص اللازمة ومكنتهم من لم شملهم وتنظيم هذا القطاع، ولا المجتمع تقبل واقتنع في مجمله، بالعروض التي يقدمونها إلا في ما ندر من بعض القطع النقدية.تونس نموذج للبلدان العربية التي تعيش أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ويحاول الفرد فيها الخروج من هذه الشرنقة بشكل أو بآخر.
المتجول في شارع الحبيب بورقيبة وبعض الأزقة المتفرعة عنه في قلب العاصمة تونس، يلمح كفاءات من العازفين والمغنين، شبابا وشابات، تنضح موهبة وإتقانا لهذا النوع من فنون الشارع، ويسأل: لماذا لا يترسخ لدينا هذا اللون الاحتفالي البهيج، والواضح أننا لسنا أدنى رتبة مما يعرض في أوروبا وغيرها.
السؤال يبقى في ذمة السلطات المحلية والجهات المسؤولة قبل العازفين وجمهورهم الذي لا بد أنه سيتقبل هذا النوع من الفن بحماسة أكثر من المعتاد، ولا يتعامل معه كنشاط هامشي ويتفرج على عروضه دون أن يمدّ أياديه إلى جيوبه.
ها هو الشارع الأشهر في العالم العربي، وفي ثورات ما عرف بـ”الربيع العربي”، يتحول، وإلى جانب التظاهرات والاحتجاجات السياسية والمظاهرات النقابية، إلى مكان يرتاده الشبان من أجل عزف شتى ألوان الموسيقى وعرض مواهبهم على المارة في ظاهرة تنتشر يوما بعد يوم لكي تصبح بديلا أمثل لثقافة العروض داخل القاعات والفضاءات المغلقة كما يلاحظ كل من مرّ من هذا الشارع في المناسبات والعطل الرسمية على وجه الخصوص.
إنه لمشهد يدعو إلى الانشراح أن تنبعث الموسيقى في أكثر من زاوية وركن في الشارع الذي صدحت فيه حناجر الغاضبين يوم الرابع عشر من يناير 2011، ولهذا الفضاء أكثر من رمزية في وجدان التونسيين والعرب والأجانب الذين حطوا رحالهم إليه.
دعونا ننسى قليلا أن هذه الشوارع لا تحتوي على مبنى وزارة الداخلية وحدها والدوريات الأمنية وحواجز التفتيش. دعونا نتذكر أنها تعج بقاعات المسرح والسينما والمكتبات ومراكز بيع الأسطوانات.
ها هي فرقة “آرت.إيز.آن.آرم” أي الفن هو السلاح، واحدة من العشرات من المجموعات الموسيقية التي تكونت على الهامش، وتقدم عروضا موسيقية ملفتة دون أن تحظى بدعم إنتاجي سوى الرغبة في تقديم فن لا يدعي أنه بديل، لكنه مختلف ومواز لما تروجه بورصة الفن الموسيقي وفق حسابات محددة.
في العهود القديمة كان الرومان يقومون بعروضهم المسرحية في الشوارع والساحات العامة، وكذلك كان يفعل فلاسفة الأغريق ويقيمون المناظرات الفكرية والمحاضرات
هؤلاء يقدمون في مجملهم موسيقى “الريغي” القادمة من عمق المعاناة الأفريقية، بالإضافة إلى ما يعرف بالأغاني الملتزمة محليا وعربيا، فما الذي يمنع من اعتمادهم وتكريسهم جزءا مؤثثا لهذا الفضاء الثقافي الضارب في القدم، وحتى قبل أن يسمى باسم الزعيم بورقيبة غداة الاستقلال.
وفي هذا الصدد يقول أحد المغنين الشبان لوكالة أنباء أجنبية في تونس “كانت التجربة رائعة، تعلمنا منها أشياء رائعة وأطربنا المارة دون مقابل، الشارع كان ملاذنا الوحيد للتعبير عن مواقفنا عبر الموسيقى، تعرضنا لملاحقات البوليس وتم اعتقالنا أكثر من مرة ولكن ذلك لم يثننا عن ممارسة فننا”.
ولسائل أن يسأل أمام هذه الشهادة الحية والمؤثرة: ماذا ستخسر الجهات المختصة إن هي سمحت لهؤلاء بالإمتاع والاستمتاع، فهم لا يحملون بين أياديهم قنابل مولووتوف بل أدوات موسيقية تنعش الروح وتنسي الناس همومهم.
الحقيقة أن البلاد ستربح الكثير إن أفسحت المجال لهؤلاء وسمحت لهم بتفجير مواهبهم في هذه الأجواء الخانقة، وذلك عبر تنظيم قطاعهم بالشكل الذي يسمح لهم ببعض الربح والاستمرار في فنهم وسط ظروف ضاغطة.
ولا ينبغي ألا ننسى أنّ في العهود القديمة كان الرومان يقومون بعروضهم المسرحية في الشوارع والساحات العامة، وكذلك كان يفعل فلاسفة الأغريق ويقيمون المناظرات الفكرية والمحاضرات لأن لا خير في فنون تبقى سجينة أبراجها العاجية ولا تلتصق بهموم الناس.