مدينة الفاتحين بلا ذاكرة

تفاهة حولت مدينة الفاتحين وعاصمة الرومان إلى مدينة استهلاكية جائعة تنام وتصحو على السباق نحو المقاهي والمطاعم التي تنتشر فيها مثل الفقاقيع.
الخميس 2022/01/13
مدينة التاريخ الكبير

مدينة سبيطلة (وسط غرب تونس) ظلت لقرون طويلة عاصمة لحضارات متعاقبة نوميدية ورومانية وبيزنطية، ثم كانت من أول الأماكن التي فتحها المسلمون في تونس في غزوة قادها العبادلة السبعة، لكنها الآن مدينة مجهولة ومهملة في دولة تنتقم من تاريخها..

حين تمر بها لا تشعر بأنك في مدينة تعتز بتاريخها بالرغم من بقايا آثار الحضارات القديمة التي لا يكاد يزورها أحد من السياح العرب والأجانب لكونها مدينة بعيدة عن الساحل التونسي الذي استثمرت فيه الدولة الوطنية كل جهدها وأموالها منذ الاستقلال في 1956، فهو بلاد الرؤساء والوزراء وكبار رجال الأعمال، أما المدن الداخلية فظلت مجرد هامش حتى وإن كانت تمتلك تاريخا كبيرا.

عقدة التاريخ تنتقم من هذه المدينة، ثمة شيء غريب يحوم حول الحكاية ما يجعل دولة تحتفي بمدن أثرية على حساب أخرى، فسبيطلة عاصمة مثلما كانت قرطاج عاصمة، وهي مدينة للفاتحين مثلما الشأن مع القيروان. لماذا تحتفي الدولة بقرطاج والجم والقيروان وتغمض الأعين عن مدينة التاريخ الكبير؟

◄ مدينة التفاهة الجديدة تبتلع الماضي والحاضر وتخنق الناس من لحظة الولادة إلى نحيب الوداع الأخير

البعض يقول إن الدولة الوطنية التي قادها أبناء السواحل وتمتعوا بمزايا الاستقلال وخيراته لم ترض أن ترفض سبيطلة وبعض مدن الداخل الأخرى فكرة الاستقلال عبر التفاوض مع فرنسا، ولم تنس لها أنها رفعت السلاح وعقدت مؤتمرات المقاومة فأهملتها وهمشت تاريخها وناسها.

حين تدخل هذه المدينة من شرقها أو شمالها لا تجد أي ملامح من وجهها القديم الذي رصدته كتب التاريخ وقصص أهلها المروية. لا معالم للثقافة سوى أنشطة موسمية متفرقة بروح استعراضية باهتة، عدا محاولة واعدة لبناء مركز ثقافي على سفح جبل سمامة في رمزية متينة على رغبة في مكافحة الإرهاب الذي استوطن ذلك الجبل ومحيطه، ورغبة صاحب المشروع عدنان الهلالي في مواجهة التفاهة التي تغمر الحياة، وتجاهل الدولة الذي استوطن المدينة ومحيطها بعد ثورة قادها أشخاص بلا روح ولا فكرة، وقد ظن الناس أنها ستعيد إليهم المعنى والعدل وتفتح أبواب مستقبل بطعم الحياة.

تفاهة حولت مدينة الفاتحين وعاصمة الرومان إلى مدينة استهلاكية جائعة تنام وتصحو على السباق نحو المقاهي والمطاعم التي تنتشر فيها مثل الفقاقيع. كل الناس يجرون وراء لقمة العيش وتتقاطع أصوات الباعة مع أصوات السيارات القديمة التي تملأ المكان ضجيجا وتلوثا، ومع أصوات الأنين القادم من أرياف كثيرة لم يتغير حالها رغم صخب الشعارات قديمها وجديدها.

مدينة التفاهة الجديدة تبتلع الماضي والحاضر وتخنق الناس من لحظة الولادة إلى نحيب الوداع الأخير.. حلقة مفرغة تعبر بصدق عن حال بلد وضع ساقيه على عتبة التقدم يوما ثم انكفأ وتقهقر.

20