فادي المدرس المدرك للحظته الهاربة في الوجود

يتشبه الكثير من الفنانين الذين يولدون في عائلات فنية بمسيرات آبائهم، خاصة إن كان الأب رائدا ومجددا في مجاله، إلا أن التشكيلي السوري فادي المدرس لم يتقفّ منذ بدايته الفنية خطوات والده فاتح المدرس الرائد في الفن التشكيلي على مستوى سوريا والعالم العربي، بل سعى لضبط ملامح هوية فنية خاصة به تجعل من لوحاته محاولة للهرب من القيود الفكرية والزمانية والمكانية التي تحدّ من قيمة العمل الفني.
الذي يولد في نهر فاتح المدرس قيصر التشكيل السوري، ويستحم فيه كل الوقت، والذي يكون ثمرة من شجرة فاتح المدرس الناطحة للسموات، لا بد أن يحمل شيفرة اللون والحياة دون صعوبة. وسيخترق بيادر المساحات ومواسم الفضاءات بعنفوان وثقة وبكل تأكيد سيكون حصاده وفيرا جدا.
نتحدث هنا عن فادي فاتح المدرس المولود في العام 1961، والذي أصر منذ البدء أن يكون طريقه مختلفا، وعمل الكثير كي لا يكون ظلا لأبيه الذي يمد بظلاله لمسافات طويلة وعلى قامات فنية كثيرة ولأكثر من جيل.
تحرر من التبعية

الابن والأب.. في الفن لا أحد يشبه الآخر
يقوم فادي بملء الفضاء ببصمته الخاصة، بعيدا عن عباءة أبيه وإن ولد تحتها، تلك العباءة التي تلاحقه كثيرا حتى في شهيقه وزفيره، وهذا أمر عادي فسلطة أبيه على الساحة الفنية ليست عابرة بل فاعلة في كل مواقعها. فكيف لا يمارس عليه وهو الذي ولد في هذا النهر الرقراق الجارف؟
لعل هذا أحد الأسباب التي دفعت فادي المدرس إلى الهرب بعيدا، نحو الولايات المتحدة علّه يبعد جلباب أبيه قليلا أو كثيرا، وعلى نحو أخص حين بدأ بتقليص معطيات الوجوه بتحسس قواها الخفية وكأنها سجادة شرقية فاقدة لتفاصيلها لكنها حافظة لزمنها ورائحتها، منطلقا من المعطى البصري ذاته مع تقليص في زوايا الانتقاء القطعي والتركيز على قنص اللحظات في طاقتها التعبيرية بالتوازي مع رصد غير ثابت للأشياء من علاقتها في استيعاب انفعالاتها وإن كانت في غاية التنوع.
لكن فادي سرعان ما يقلب الشيفرة وينقلها بأحمال حسية من موقعها داخل الذات المبصرة إلى خارجها حيث الإرساليات هي تراكيب لحظية غير مستديمة لكن متفاعلة إلى حد بعيد مع تلك العناصر المرتبطة بمدلولها والتي لا يمكن تجاهلها وستتحول إلى أساس لبناء تشكيلي يشيده فادي بتطابقات لونية.
هذا الأساس يمثل الضوء فيه نبراسا والحركة خلاصات إدراكية تستنطق وفق فرضيات زمنية وحضارية ممزوجة بتمثلات بصرية مركزها ذاكرته التي بإمكانها أن تقوده إلى مسافات تمتد في أزمنة مديدة. فالتنقل المحكوم بطاقة مرنة ومتولدة داخل دائرة اشتغاله، وبين البؤر والأطراف كمستوى مليء بأجزاء مكتملة انفعاليا، أقل تعقيدا في عناقه مع الطبيعي المدرك تماما للحظته الهاربة في الوجود وبحثا عن الوجود ذاته.
لكننا نقر بأن فادي بنصوصه البصرية ينجز سياقات متعددة ضمن نسق مفتوح وبتناظر دلالي فيه من المتحققات ما يغني مساراته بكل المكونات محدودة القيمة منها، حيث الصياغات مشخصة على نحو عام، وغير محدودة القيمة أيضا بتنظيم إجراءاته المرئية من داخل الواقعة وحينها يمكن النظر إلى ألوان إضافية تزخر بها أعماله، وتعود لها بدلالات إضافية.
مرايا للأنفس
لفادي اعتداد بالنفس وهذا يدفعه إلى المثول أمام الدوائر الإبداعية بصوت تجاذبه التأملات والخواطر من جهة، وسياقات الوجهة الجمالية من جهة ثانية.
هذا التجاذب هو وحده القادر على تحديد آفاق إبداعه وبعث الروح فيها، ويدفعنا إلى القول إن أعمال فاتح المدرس الابن تكاد تتحول إلى مرايا، نرى فيها أنفسنا بانكساراتنا وتصدعاتنا، بغيابنا وتلاشينا.
كما أنه ليس بالإمكان عزل الأشياء عن طبيعتها، فالمعطى البصري هنا مشخص على نحو ما، وقد خلق دروبا من انفعالات يؤسس عليها فادي قيمه الجمالية، فمسعاه دائما يتم وفق بنية مجردة وبزوايا جديدة قد تكون هي ركيزة بنائه الدلالي وحولها تتأسس الدلالات كلها.
ولا شيء في لوحات فادي يخرج من دائرة الخضوع لنمط معين، فلكل شيء نمطه الحامل لفرادته مع تحييد القدرة على التآلف في الزمن المتغير، إذ لا تشابه فيه بل يطغى الاختلاف بوصفه وحدات صامتة تقتضي التمييز بين الأشياء ذاتها وبين ماهيتها في إدراك المشهد وكائناته.
فادي المدرس يملأ الفضاء ببصمته الخاصة، بعيدا عن عباءة أبيه الفنان التي تلاحقه كثيرا حتى في شهيقه وزفيره
كما أن وجود سلسلة من عمليات التنقيب والكشف في مجمل مروياته البصرية تدرج في موكب من المشاهد الحوارية تتدلى من أسراب ألوانه وهي ترفع نخبها داخل مساحات سرديته حيث التوقع والحدس في أوسع مداها حتى تكاد تقترب من الزمن الذي أثار انتباه آدم وكينونته.
وفادي لا يكتفي بالتناسخ والتآلف بل يرسي ممكنات التغاير والاختلاف وإن في إيهام واقعي داخل تعاويذه اللونية وبخلاصاته السحرية حيث العتبة طويلة نسبيا، وهي طويلة بمقولاتها التي تتبنى التجريب كنقطة تحول في مسيرته الأشبه بمسيرة الليل والنهار في مركزية حقيقتهما، أو كنبوءات القدر في تقييمات الروح بفكرتها الأبدية.
إن فادي الذي تعلم الرسم قبل الكلام، يدرك تماما أن تفجير الروح في جسد لوحته يحتاج إلى آلام مخاض وولادة، وبالتالي يدرك أن تفصيلات عمله وتفاصيله تحتاج إلى تحقيق نوع من المصالحة بين الشيء واللاشيء، بين الشكل واللاشكل دون أن يلغي أحدهما الآخر، وهذه إسهامات ومشاريع لفادي قد يحجب عنها في القادم من الزمن.

