القطط.. كشافة المدن القديمة

كان يوما عجيبا، فقد اتسعت خطواتي لتصل إلى حواف المدن القديمة التي تستفز تفاصيلها الذاكرة.
وأنت تسير في نهج الدباغين في قلب العاصمة تونس، حيث تلقى الكتب القديمة على الجنبات، وتتراقص أمامك الوجوه والذكريات، كانت القطط المتمددة تهز رأسها بصعوبة لتراك ثم تغمض أعينها. حالها كحال العابرين الذين أثقلت عليهم سنوات الثورة وزادت من همومهم.
اختفى مقهى الدباغين القديم الذي كنا نلتقي فيه كل صباح نشرب قهوتنا على مهل، وكنا طلبة وخريجين جددا في الجامعة، نتحلّق مجموعات صغيرة ونطلق وشوشات صغيرة عن السياسة والنظام الجديد بداية تسعينات القرن الماضي.
كانت القطط تتقافز من حولنا كأن لديها حافزا للحياة في بلد كان أكثر نظافة وأكثر عملا وأقل كلاما.
لكن الآن فاض الحديث في كل اتجاه وتضخمت الأمنيات وتوقفت ساعتنا الضخمة في الشارع الكبير بانتظار انطلاقة جديدة للحياة بعد عشر سنوات من الصراخ وصراع الضباع التي جاءتنا من كل اتجاه. وانسحبت القطط إلى فناء المدينة الخلفي وأصابها اليأس والهرم.
المدينة، التي توصف بالعتيقة كناية على ما تتمثله من رموز وحكايات ومساجد وعلوم، لم تعد تقدر على أن تتمشى في أنهجها دون أن تضغط على أنفاسك وتصدك إلى الوراء.
تلك العتاقة فقدت توهجها ولم تعد بقادرة على بعث الحياة فيك أو في القطط التي تتابع سيرك.
لكن قطط القيروان غير قططنا..
في الطريق من جامع عقبة الشهير باتجاه جمل بروطة الذي يدور حول البئر في حركة روتينية قاتلة والصغار القادمون من مدن أخرى يتحلقون من حوله، تعترضك قطط صاحية تقفز من نهج إلى آخر، هذا نهج للإمام فلان، والآخر لمقرئ معروف من أبناء المدينة ذات التاريخ العريق.
روحانية القيروان القديمة تستمر بزرع الحياة في محيطها، تبعث الحياة في القطط كما تبعثها في الشعر والرواية، حيث باتت لمدرسة القيروان روح خاصة تحدد هوية مبدعيها..
حالة من التصوف والفناء في المعني تطبع دواوين جميلة الماجري مديرة بيت الشعر في "ديوان الوجد" كما في "ديوان النساء".
وفي شعر محمد الغزي “سليل الماء”، ومنصف الوهايبي “أشياء السيدة التي نسيت أن تكبر”، وروايات الراحل صلاح الدين بوجاه صاحب “التاج والخنجر والجسد”، والكينغ كمال العيادي الماسك بـ”مفاتيح القيروان”.