"نازلة دار الأكابر" اعترافات ذاتية تعيد قراءة تاريخ تونس

ضمن تظاهرة “أنا كاتب” قدم مركز الفنون الدرامية والركحية بمحافظة سليانة التونسية مساء الأربعاء غرة ديسمبر 2021 رواية “نازلة دار الأكابر” للكاتبة التونسية أميرة غنيم، الرواية التي سبق لها أن وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورتها الأخيرة.
تدور رواية “نازلة دار الأكابر” لأميرة غنيم حول عائلتي الرصاع والنيفر وما حاق بهما من تقلبات على امتداد أجيال، تصوغها الكاتبة ببراعة.
الحكاية مشوقة، ليس في ذلك شك، لكن ليست هي المهمة في نهاية الأمر، فتقليب طبقات الحكايات وما تبثه الكاتبة بين شقوقها من تفاصيل، يقودنا إلى اقتحام عوالم أخرى فأخرى، أفكار تتناسل، دون أن يكون للكاتبة الرأي الحاسم أو الوصاية على قرائها.
لكل شخصية حكايتها

الرواية تقرأ تاريخ تونس من زوايا مختلفة على ألسن أناس من طبقات متنوعة وتقدم العلاقات الاجتماعية كما هي
تبدأ الرواية من الحاضر تحديدا سنة 2013 بحديث الخالة لويزة الخادمة المسنة، لتعود إلى تواريخ مختلفة من الماضي منذ طفولتها، لتنطلق إثرها استذكارات غير مرتبة كرونولوجيا، إذ تستعمل الرواية أسلوبا بوليفونيا وتقيم بناءها على تعدد الأصوات الراوية، ولكل صوت ميزته ووجهة نظره ورؤيته لما وقع.
تقوم الرواية على عشرة أحاديث كل منها له تاريخ ومكان محدد، فكان كل فصل حديثا لإحدى الشخصيات مثل “من حديث سي علي الرصاع (نهج العزاين صيف 1956)”، وفصل آخر “من حديث للا فوزية طليقة سي امحمد النيفر زاوية (سيدي محرز 1951)”، تتناوب قص أحاديثها، شخصيات من مختلف الأجيال من عائلتي الرصاع والنيفر، إضافة إلى رواية الخادمتين اللتين كان لهما رأي في دواليب الحكاية وتفرعاتها. أما الحديث الحادي عشر فتتولاه هند الحفيدة بعنوان “حديث البدايات”.
الأحاديث العشرة قسمتها الكاتبة بالتناصف خمسة للرجال وخمسة للنساء (دون احتساب حديث البدايات)، فيما كانت لكل حديث منها إعادة قراءة من زاوية أخرى للأحداث، فنجد تنوعا في وجهات النظر، ما يكشف جوانب أخرى من الشخصيات، التي تختلف في طباعها ومكانتها الاجتماعية وثقافتها وأجيالها، لكنها تتشابه من حيث أنها بشرية لا هي خيّرة في الإطلاق ولا تختزل الشر في إطلاقيته.
نرى هذا مثلا في شخصية الخادمة لويزة التي تخدم سيدتها للا زبيدة بإخلاص ووفاء نادرين، فيما نجدها على لسان الخادمة الثانية خدوج أو على لسان سي امحمد النيفر أو للا جنينة وسي عثمان في صور أخرى كناقلة لأسرار البيوت ومحاولة إغراء امحمد واستمالته، بينما تحول حبها الخفي له إلى كراهية عادت لتتحول إلى عطف في آخر أيام سي امحمد فكانت ترتب له البيت الذي ظل فيه بمفرده إلى حين وفاته بشكل محزن.
وحتى الشخصية التي نمر على كل أحداث الرواية ناظرين إليها بشيء من الشفقة والتشكك والاحترام في مزيج متنوع من الانفعال لا يرقى إليه شك في أخلاقها وهو سي محسن النيفر زوج للا زبيدة، فإننا نكتشف في حديثه وجها سيئا حيث تسبب في إجهاض زوجته الصمّاء دون علمها، وأوهمها بالعقم حتى توفيت دون أن تدرك الحقيقة.
إذن لكل حديث من هذه الأحاديث اعتراف يكشف الذات والآخر من وجهة نظر الذات الراوية طبعا، وهو ما خلق رؤية بانورمية لا فقط للحدث الذي يلهث القارئ وراءه منذ بداية الرواية إلى ختامها، بل إلى تقلبات الزمن والحقب التاريخية المتلاحقة التي مرت بها تونس وأهلها، على امتداد أكثر من مئة عام، من عهد البايات والاستعمار الفرنسي إلى الاستقلال وما تلاه وصولا إلى ما بعد الثورة التونسية.
النازلة التي تتمثل في رسالة أرسلها الطاهر الحداد إلى للا زبيدة زوجة سي محسن النيفر، التي كان يحبها، وانكشاف أمرها من صهرها سي امحمد النيفر واتهامها بالخيانة، كانت المحرك الأساسي الذي اجتمعت الشخصيات على اختلاف آرائها في تناوله كل منها من جانب، بينما البطلان الأكثر حضورا وهما الطاهر الحداد وللا زبيدة، صامتان عدا بعض ما يحكى عنهما بالنيابة، تهم تحاك ولا حقيقة واحدة غير الشك الذي يقود القراء.
الجمع بين شخصية تاريخية حقيقية هي الطاهر الحداد وشخصية متخيلة هي للا زبيدة، كان محور اللعبة السردية التي أتقنتها الكاتبة، حيث لم تسقط الرواية على امتدادها في التوثيق التاريخي، رغم أنها تنضبط لمسار التاريخ التونسي بشخوصه وبعض أحداثه، مثل الحرب العالمية والقصف على مدينة تونس والجنود الألمان وحادثة الجلاز وحادثة محورية أخرى نقلتها ببراعة وذكاء تمثلت في توقيع الطاهر الحداد لكتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع” الذي خذله في حضوره حتى صديقه أبوالقاسم الشابي، وما أحاط بحفل التوقيع من مؤامرات حولت هذا المؤلف إلى لعنة قضت على صاحبه وهو أوج شبابه.
إذن تمكنت غنيم من تحقيق التخييل التاريخي عبر قصة حب متخيلة بين المفكر والشاعر التونسي الطاهر الحداد وتلميذته السابقة للا زبيدة، التي تسببت الرسالة المنسوبة إلى الحداد في تمزق حياتها وسقوطها في عذاب سحيق من العجز والمهانة وهي المرأة القوية والمثقفة الواثقة، كما تسببت الرسالة في انكشاف الأقنعة وتشتت عائلات بأكملها ممن يسمون بالأكابر، هؤلاء الذين ظلت أسرار بيوتهم سجينة الجدران، فيما لا يرى نور منهم إلا الشخصيات الفاعلة والمؤثرة والقوية المتحكمة بدواليب الدولة.
المضي قدما

العودة إلى التاريخ واستحضار الشخصيات الحقيقية منه لم تكن إلا ذريعة للنفوذ إلى ما هو أهم
الرواية تسير على خطوط عديدة في الحقيقة، فلا هي تلتزم بالتاريخ ولا هي تحيد عنه، وحتى التاريخ نفسه واستحضار الشخصيات الحقيقية منه مثل الطاهر الحداد لم يكن إلا ذريعة للنفوذ إلى ما هو أهم.
تثير بداية في مسارين أسرار عائلتي الرصاع والنيفر المتصاهرتين من خلال زواج للا زبيدة وسي محسن، وقد أرغمها والدها على هذا الزواج بعد أن رفض طلب الطاهر الحداد ليدها، وبعد أن أهانه وتحولت محبته له إلى احتقار، لأنه ليس من نفس طبقتهم. هكذا هم الأكابر يكابرون حتى في ما يحبون.
ندخل بيتي الرصاع المنفتح والذي يدرس بناته في المؤسسات الفرنسية ودار النيفر المحافظ الذي يرفض تدريس بناته، عائلتان هما مثالان للأكابر الذين كان لهم تأثير في تاريخ تونس، سلبا وإيجابا، مثالان لقطبين بين المنفتح والمحافظ. وتكشف لنا غنيم أسرارهم، فنجد منهم المثلي ومن يعاني من عقدة تفوق أخيه (سي امحمد) ومن فتت الحب قلبه وهو نتيجة الوجه المظلم من نظام التعليم الديني الذي تسبب في اغتصابه صغيرا.
ونجد العنصري مثل تعامل للا جنينة مع خادمة السوداء خدوج وأمها التي ماتت في صمت، وكأنها إحدى البهائم، والتعامل مع الطفلة السوداء وكأنها طاردة للنحس، ونرى في استقدامها وهي فتاة بجانب للا جنينة أثناء ولادتها فإذا وقع النحس يقع في الرأس الأسود، أليست قمة العنصرية والامتهان والإذلال اللذين نراهما كذلك عند لويزة، التي نالت نصيبها من العمل الشاق.
خلف جدران البيوت العالية إذن وخلف صُوَر الأكابر المنمقة هناك تاريخ خفي من امتهان الناس، لكن الكاتبة لا تحول روايتها إلى محاكمة للأكابر، بمنطق أيديولوجي، فتعطي لهم صورا أخرى خيرة في تعاملهم مع الخدم أو في محاولة ترضية النفوس ورأب الصدع بين دار الرصاع والنيفر، وفي تعدد أبنائهم بين المناضل الوطني والطبيب والصحافي العالم ومعاملتهم المتناقضة لخدامهم. إنها عوالم متداخلة تبين من خلفها التجاذب الذي ميز تاريخ تونس.
تعرّي غنيم التاريخ كما هو، الأحداث والأفكار التي تريد كشفها في الخلفية كثيرة، نجد إلغاء الرق واستمراره بشكل آخر، نجد الخصام بين مناضلي الحزب القديم والجديد، نجد المجتمع الرجعي والمتآمرين من السياسيين والصحافيين الذين لاحقوا الطاهر الحداد بالشائعات بعد نشر كتابه ونكلوا به في الصحف والمقاهي والشوارع حتى انعزل ومات شابا من القهر والإحباط، فيما تحول لاحقا إلى بطل وطني منه استلهمت مجلة الأحوال الشخصية القانون التونسي الرائد والذي شكل عماد تونس الجمهورية الحديثة وسط محيط رجعي، محيط كان حتى وسط الأكابر أنفسهم فرأينا مثلا رأي سي امحمد في المجلة ورفضه لها.
ما تحقق إذن للمرأة التونسية وللمجتمع التونسي لم يكن بسلاسة وإنما واجه موجات من الارتداد من قبل أناس محافظين وآخرين رجعيين، وهم أنفسهم من تنازعوا قبل ذلك على قيادة الحزب الدستوري إلى أن تمكن الجدد من تحقيق الاستقلال.
إنها حكاية الطاهر الحداد وعذاباته وهو الذي أفرد ونكّل به هي حكاية التنوير الذي لا يتحقق بيسر مطلقا، وإنما بمشقة قد تذهب بالعقول التي جاءت به.
تقرأ الرواية تاريخ تونس من زوايا مختلفة، على ألسن أناس من طبقات متنوعة، وتقدم العلاقات الاجتماعية عارية من أي تنميط أو تشذيب، علاقات يحكمها التناقض والخوف والحب والأخطاء والشك والوفاء والخنوع.. وغيرها من المتناقضات.
تجعلنا الرواية نعيد مرة أخرى النظر إلى تاريخنا، وما حديث البدايات وهو الحديث الحادي عشر على لسان هند حفيدة للا زبيدة إلا تأكيد على ذلك خاصة في ما يتعلق بما بعد الثورة وادعاء حبيبها السابق الذي صار من السياسيين التجار بأنه مع المساواة بين الرجل والمرأة، وفضحها له.
المشهد الختامي وهند تحمل الحقيبة التي تحوي أسرار العائلة، والتي استخرجتها من قبو المنزل القديم المهجور، والقفص الذي تجرفه المياه، ما هي إلا دلالة على أن للتاريخ وجوها أخرى، ولكنه لن يبقى سجينا للأبد، وما يهم في النهاية هو تحول هذا التاريخ لبناء الغد، لا إلى قفص، وهو ما رأيناه في تبرعها بمكتبة جدها. إنها دعوة إلى إعادة قراءة ذواتنا دون تكبّر أو مغالاة في الانغلاق، دعوة إلى المضي قدما رغم أن “كل هذه الأشياء ستعيش من بعدنا” على رأي أخماتوف.
