رمضان البكشيشي فنان البورتريهات المحفورة في الذاكرة

الفنان رمضان البكشيشي حالة استثنائية وطارئة على التشكيل الليبي، وهو الذي تجاوز الثمانين من عمره ولا يزال في مناطق الفن شابا عالي الهمّة، نفس طويل في الإنتاج الغزير ودون توقّف يصحبه سرد عميق لسير الناس وقصصهم الصغيرة عبر بورتريهات محفورة في الذاكرة، وتفاصيل من زوايا مركونة مهملة لم ينتبه إليها إلا الفنان نفسه في حياة الليبيين عامة ومدينة بنغازي خاصة.
تتّسم أعمال التشكيلي الليبي رمضان البكشيشي بقوة تعبيرية لا يطمح فيها الفنان المخضرم إلى تمثيل الأشياء بقدر محاولته نقل المتلقي إلى أجوائها وخلق مناخ يكون ترجمة أمينة للمشاعر والأحاسيس التي تعتمل في دواخل أبطالها المرسومين، فهي تقترب من عوالم الألماني التعبيري إميل نولد ذات الجسارة التعبيرية في تناول مواضيعه وألوانه وطريقة معالجاته المختلفة عن السائد في وقته، فكان الفنان البكشيشي يسلك هذا الطريق الوعر التي نجح في عبوره إلى أبعد حد بشكل تلقائي عفوي مدرك لما يفعل في آن واحد.
يبتعد البكشيشي كثيرا عن التوجيهات الأكاديمية ويقترب من الطرح بشكل أكثر بساطة في تناول مواضيعه الاجتماعية والتي مرّ بها المجتمع الليبي من فقد وخوف وحرب، كان الضحية فيها الإنسان العادي البسيط، فكان تركيزه على الأسر المحتاجة كلوحته “في انتظار عيادة الطبيب”، حيث الطفل المريض في حضن أمه التي يعتريها لمحة من خجل وقلق وألم واستسلام الأب لوضعه المحتوم في مناطق العوز كغيره من الليبيين وانسجام باقي الأطفال في اللعب ببالونات ملونة كاستشراف لمستقبل أجمل.
سيرة الحياة
سيرة الأطراف ألمٌ يعتري أغلب الوجوه المرسومة في أعمال البكشيشي، قافلة في الصحراء مرسومة بخفّة لا يمكن وصفها بكلمات، حديث المقهى رجل ينصت وآخر يتأمل وثالث يتحدّث بصوت عال ورابع يحاول قراءة العيون لعله يقتنص ما يصبو إليه ومعرفة أوراق خصمه.
بورتريه الملك إدريس السنوسي، عمر المختار والمدرسة الفاضلة حميدة العنيزي والتي كانت مديرة مدرسة سنة 1950 وقصص أخرى للجهاد الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، بورتريهات مشاهير الخمسينات والستينات من الزمن الجميل، بورتريهات الرائدات من الليبيات الفضليات وشعراء ورسامين والكثير من المثقفين، بعض الفرح والكثير من الخراب والحزن بفعل التغيرات الكبرى في مزاج التاريخ على البلدان العربية.
يتّجه الرسام دائما إلى السهل في أسلوبه وتناوله مواضيع اجتماعية غاية في الحساسية وذات مضامين وأبعاد إنسانية رفيعة، وهو الذي يتنقل بين عوالم طازجة مدعومة بذائقة بصرية رفيعة وخبرة كبيرة في التلوين والتدوين لالتقاطات يغفل عنها الكثير من الفنانين الذين يتجه أغلبهم إلى محاكاة الواقع المعيش والمبالغة في البقاء على السطح دون أي محاولة للغوص في أعماق التجربة الفنية التي بدورها تقودهم إلى المتن ولا تبقيهم على الهامش أبدا.
كل مناطق الفنان تتجاور مع التعبيريين الألمان أمثال: إيميل نولد وأرنست لودفيغ كيرشنر وأوغستين ماكه وفرانتس مارك خصوصا عندما يتكلم بالرسم عن معاناة الآخرين وآمالهم، ولكن عندما يرسم نفسه أيضا.
في بورتريهاته الشخصية يقترب أكثر من النهج الذاتي المرتبط بأسلوبه الذي عرف به عبر سنوات طويلة مضت، فيكون رسمه تعبيريا مصاحبا لحالات عاطفية وذهنية مشحونة بمثابة صورة داخلية لوضعه النفسي في تلك الأوقات التي تمّت فيها عملية الرسم، وغالبا ما يتم تأثيثها برسم المناخ المحيط، رسم المرسم وأدوات الرسم والأعمال الفنية المعلقة على جدرانه لتحديد بورتريه المكان قبل البورتريه الشخصي عنده.
مع وصول البكشيشي من العمر المديد، ونتمنّى أن يطيل الله في عمره، أصبح يعاني من آلام المفاصل وعدم قدرته على مسك فرشاة الرسم بشكل صحيح أو كما ينبغي، فقرّر أن يستعمل أصابعه ويده في التلوين والرسم بشكل مباشر والاستغناء عن الأدوات مثل الفرشاة والسكين لتنفيذ أعماله الفنية. وبخبرته وكفاءته في الرسم استطاع أن ينجز أعمالا غاية في الجمال بل أصبحت تتّخذ مكانا كمرحلة جديدة من إنتاجه الفني، وتميّزت على مراحله السابقة بأثر مختلف على سطح اللوحة عنده من فعل استعمال اليدين بدلا من الفرشاة.
فطرية التعبير
مهارة الفنان في المزج والتظليل واختيار الألوان بتجاورها وعبث الأطفال والفطرية في التعبير عن الموضوع المراد رسمه واختفاء الخط بشكل شبه كامل، استعاض عنها بالتظليل لصناعة خطوطه، وأصبحت تكويناته أكثر تلقائية، مع محافظة ألوانه على مزاجها الهادئ في مخاطبة المتلقي.
والفنان في كل ذلك لا يلجأ إلى الإبهار المتعمّد بالألوان الصريحة، ما لم تخدم موضوعه، فأغلب إنتاجه يركن إلى سرد قصص المحتاجين والفقراء وأصحاب الحقوق الضائعة مصاحبة لعوالم الحزن والشكوى، وهذا ما يتسرّب إليك من ألوانه وعند مشاهدة لوحاته، فتعتريك مسحة من حزن عميق تثري القيمة الفنية لأعماله الفنية.
في الأسابيع القليلة الماضية أقيم للفنان معرض شخصي في نادي عوض عبيدة للفنون التشكيلية ببنغازي حمل عنوان “بورتريه” مثّل جزءا من إنتاجه الفني في سنوات مضت، قدّم من خلاله أربعين عملا فنيا، شمل بورتريهات لشخصيات ليبية وعربية سياسية وثقافية وبعض المواضيع الاجتماعية والوطنية، حيث احتفل كل المهتمين بالشأن الثقافي والفني بمدينة بنغازي بهذا الحدث الهام في حياة الفنان بشكل خاص وفي الحركة التشكيلية الليبية بشكل عام وتمّ تكريمه من قبل قنصل دولة فلسطين الذي زار المعرض.
وولد الفنان رمضان البكشيشي في مدينة بنغازي عام 1938، تعلّم على أيدي أساتذة مصريين في بواكير حياته الأولى وأهمهم المدرس والفنان المصري يحيى بوحمزة رفقة الكثير من المواهب الذي أسّس معهم جمعية أو تجمع للفنون التشكيلية بالمدرسة، كان هذا التجمع يهتمّ بإقامة المعارض الجماعية وتنفيذ العديد من ديكورات المسارح والمشاريع الفنية الأخرى بالمدينة في تلك الأيام.
كان البكشيشي من جماعة الثلاثة رفقة الفنان محمد نجيب والفنان فتحي العريبي الذين أقاموا العديد من المعارض الفنية المشتركة مع حلول شهر رمضان لسنوات طوال، درس الرسم منذ العام 1957 وبعدها تخرّج من معهد المعلمين شعبة التربية الفنية سنة 1970، وتمّ تعيينه رئيس مكتب النشاط الفني فيه، ومن بعدها موجّه تربية فنية إلى حين تقاعده في منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
شارك في العديد من المعارض الجماعية في بنغازي وطرابلس ومصراتة وكذلك مشاركة في مهرجان المحرس بتونس سنة 2005 ومعرضه الشخصي الأخير في بنغازي 2021.
