الحق الذي لم نعرف كيف أضعناه

حالة من الضعف والخواء وانعدام الثقة بالنفس لم تمنع من معرفة الإسرائيلي على حقيقته فحسب ولكنها منعت من بناء فهم صحيح لطبيعة "المجتمع" الإسرائيلي وانقساماته وتناحراته الأيديولوجية ومصادر التأثير فيه.
الأربعاء 2021/11/17
الإسرائيليون ليسوا مجتمعا متجانسا

الصراع مع الأيديولوجيا ظل واحدا من أكبر المعضلات التي واجهت المنطقة. ليس لأنها شيء أشبه بالنظارة التي تحجب عنك رؤية الألوان، بل لأنها كانت لا تفتح إلا زاوية نظر واحدة أيضا، فلا ترى – بعد زوال الألوان – إلا جانبا ضيقا من الواقع.

التحرر من ضيق الأفق أهم من تحرير فلسطين. ذلك أن كل جهد في هذا الاتجاه سوف يذهب هباء من دون أن نمتلك القدرة على أن نرى الواقع كما هو، لا كما نتخيله.

كان المنطق، بحد ذاته، يفترض البدء من حقيقة أن تحرير فلسطين لا يتحقق بشعار “كل شيء من أجل المعركة”، بل بشعار “المعركة من أجل كل شيء”. فما لم يكن الاقتصاد والعدالة الاجتماعية ودولة القانون هي رافعة القوة العسكرية، فإن الحروب، على رافعات هشة، سوف تدمر القوة العسكرية وتدمر كل شيء آخر معها. وهذا ما حصل.

القليل فقط من حكماء هذه الأمة هم الذين أدركوا تلك الحقيقة، أولئك الذين آثروا أن يبدأوا بعمران أوطانهم أولا، على أوجه تضمن لها المنعة والاستقرار. فهوجموا أكثر مما هوجمت إسرائيل نفسها.

وكنتُ على موعدٍ مع دعوة لاختبار قدرتي على خلع النظّارة.

قبل نحو 25 عاما كانت “إسرائيل” ما كانت، عبر تلك النظارات التي تكاد ترتديها الغالبية العظمى من الناس، ويتقدمهم مثقفون وضع بعضهم نظارتين لكي لا يرى شيئا من الأساس، وذلك للدلالة على مدى أصالته القومية.

تلقيتُ دعوة من معهد “ويدرو ويلسون” في واشنطن للمشاركة في ندوة تعقد في قبرص ويشترك فيها 12 من الباحثين الإسرائيليين ممن انخرطوا في تيار “المؤرخين الجدد”. وهو تيار بدا طليعيا في الدعوة إلى تحقيق السلام، ونقد الاحتلال وسياسات التعسف ضد الفلسطينيين.

كنتُ أعمل في هذه الصحيفة أيام كان يرأس تحريرها الراحل الحاج أحمد الصالحين الهوني، وهو رجل أقل ما يقال فيه إنه قومي، بل وناصري أيضا. ولم يكن بوسعي إلا أن أسأله رأيه، قبل أن أتخذ أي قرار.

كان المنطق، بحد ذاته، يفترض البدء من حقيقة أن تحرير فلسطين لا يتحقق بشعار "كل شيء من أجل المعركة"، بل بشعار "المعركة من أجل كل شيء"

سألني في المقابل: وهل ستقول هناك غير ما تكتبه هنا؟

قلت: بالأحرى فأنا أعتزم ترجمة بعض ما أكتبه هنا لأقرأه هناك.

قال: اذهب، ولا تخف.

شارك في الندوة عددٌ من الصحافيين والكتاب العرب البارزين. كما كان الوفد الإسرائيلي متنوعا، بين كتاب ومفكرين وسياسيين وإعلاميين ونشطاء حقوق إنسان.

جاء دوري لألقي كلمتي، فسألني مديرو الندوة عما إذا كنتُ أرغب بأن يحجبوا التسجيلات الصوتية عن كلمتي (على أساس أني ربما أكون خائفا). فأشرت بأن تبقى. قربت جهاز التسجيل، وتعمدت أن أجعل صوتي أكثر وضوحا.

مضت الكلمة، وكانت الوجوه تكشف عن انطباعات متضاربة. ولكنها أثارت نقاشا حاميا من بعد ذلك، تصدره حاييم صادوق وزير العدل الإسرائيلي الأسبق في حكومة غولدا مائير.

سألتُه خلال بعض الجدل ونحن نتحدث عن حقوق الفلسطينيين: كنتَ وزيرا للعدل، فهل كان كل ما قمتم به عدلا؟

قال: لا، لم يكن عدلا، ولكنه كان القانون.

قلت: الحقيقة هي أنه لا فرق بين قانونكم وقانون الغابة.

فانبرى إعلامي إسرائيلي شهير (لم أعد أذكر اسمه) يقدم برنامجا إخباريا رئيسيا على إحدى القنوات، ليهاجم الاحتلال، فقال وعيناه تغرورقان بالدموع (بعد كأسين ربما شربهما في الاستراحة) “ليس أنا. لا دخل لي بكل ما يفعله هؤلاء (مشيرا إلى صادوق). كل مشاكلنا جاءت منهم. أنا مستعد للتنازل عن بيتي في القدس من أجل أن ننتهي من هذا كله. ليس أنا”.

تكهربت الندوة كليا. ولكن أمكن استعادة بعض الهدوء لبحث فرص وإمكانيات السلام ومخاوف الإسرائيليين من تهديدات الوجود التي يشعرون بها حيال استمرار الصراع سواء مع الدول العربية أو مع الفلسطينيين.

لم أشعر بالأسف أبدا على المشاركة، ولا التسجيل، ولا حتى على الصور التي التقطها لي (لا أعرف من أجل ماذا) أحد الصحافيين العرب الذين شاركوا في الندوة. وأستطيع أن أقدر أين تكون تلك الصور الآن.

ما المشكلة في أن يكون هناك حزب أو مجموعة أحزاب في إسرائيل قادرة على أن تقفز من خندق الاستعداء إلى خندق السلام؟ ما المشكلة في أن نكون نحن "العدوى"، ونحن البعبع؟

لم أتلق دعوة أخرى أبدا.

عدت إلى لندن، وجمعت كل أوراقي التي حملتها إلى هناك، وجعلتها في ملف، كتبت عليه ساخرا “ملف الخيانة والعمالة والتطبيع مع الصهاينة”، وذلك على اعتبار أن كل مَنْ تحدث مع إسرائيلي أصبح خائنا وعميلا للصهاينة حتى ولو أبكاهم على رؤوس الأشهاد. ذلك أن تلك هي لغة أصحاب النظارات. وهي ذاتها اللغة التي ما يزال يتداولها من لم يقدر أن يقول الحق، ولا حتى أن يراه.

النظرة الجامدة إلى الإسرائيلي باعتباره بعبعا هي التي منحته الشعور بالتفوق، وأنه “قوة لا تقهر”. كيف لا، وهو يراك تهرب كلما طلع عليك من زاوية الشارع أو نط على ناظريك من الشباك.

ولقد أمضينا نحو ثلاثة أرباع القرن ونحن نقدم للإسرائيلي تصورا سطحيا، أولا، باعتباره عدوا من دون تفاصيل. وثانيا، لا يجوز الاقتراب منه لكي لا تصيبك العدوى. وثالثا، لا تتحدث معه، لأنك ما أن تفعل حتى يحولك إلى عميل.

حالة من الضعف والخواء وانعدام الثقة بالنفس لم تمنع من معرفة الإسرائيلي على حقيقته فحسب، ولكنها منعت من بناء فهم صحيح لطبيعة “المجتمع” الإسرائيلي وانقساماته وتناحراته الأيديولوجية، ومصادر التأثير فيه.

النظر إليه كقالب استعداء حوّله في النهاية إلى قالب استعداء حتى حيال فهم واقعه كقوة احتلال وانتهاكات يومية وجرائم استيلاء لا يسندها إلا الادعاء الباطل والقوة المسلحة والأوهام.

الإسرائيليون ليسوا مجتمعا متجانسا، وجانب كبير منهم لا يقبل بعضهم الآخر، ولا يعترف به أيضا. ويمكن لكل ناظر أن يرى كيف أن أحزابهم هي في الواقع دكاكين صغيرة، كل منها يتبع حيا أو حارة أو مجموعة محدودة من البشر، وبالكاد يمكن جمع ائتلاف منهم لا تهدده تمزقات ونزاعات. ولكنهم كالصخرة الجلمود عندما يتعلق الأمر باستعدائنا.

نحن الذين نوحدهم. نحن الذين وضعناهم في القالب. ارتدينا نظارات، فلم يعد بوسعنا أن نرى من “العدو” شيئا، إلا بما سبقناه من الافتراضات. ولئن ظل هذا “العدو” يبحث في تفاصيلنا الطائفية والعرقية ويبني مخططات لاستغلالها وتمزيقنا بها، فإننا لم نعرف من تفاصيله إلا الهزيل والسطحي، وكان من الطبيعي أن نعجز عن بناء مخططات.

ما المشكلة في أن يكون هناك حزب أو مجموعة أحزاب في إسرائيل قادرة على أن تقفز من خندق الاستعداء إلى خندق السلام؟ ما المشكلة في أن نكون نحن “العدوى”، ونحن البعبع؟

لقد فشلنا في هذا أيضا. وضاع “المؤرخون الجدد” في غياهب النسيان.

9