دلشاد بهاءالدين يُراقص المُمكن في لوحات مولوية

الفنان العراقي الكردي يُقيم صلوات صوفية بين الضوء والعتمة.
الثلاثاء 2021/11/16
اللاحضور يستحيل إلى حضور في لوحات بهاءالدين

تطرح لوحات الفنان التشكيلي العراقي الكردي دلشاد بهاءالدين في كل مرة نبوءتها الجديدة، وهو الذي يعزّز العمل دون أدنى مبالغة للالتقاء بين التباينات الكثيرة من جهة، وبين المنحنيات المولوية العشقية بين الصلاة والصوفية من جهة ثانية، مستعينا في ذلك بالكشف بوصفه السبيل إلى أصل التجلي، والانفتاح على إحالات مفترضة.

دلشاد بهاءالدين المولود بالسليمانية في العام 1974 من الأسماء المهمة لا في مدينة السليمانية فحسب، بل في عموم كردستان العراق، التقيته أكثر من مرة في سيمبوزيوم السليمانية الثالث الذي أقيم في الفترة الممتدة بين الثالث والعاشر من سبتمبر 2021، سواء في مكان العمل والورشة حيث كان المشاركون والضيوف الفنانون يتواجدون كخلية نحل، أو في تلك الزيارة الجماعية التي قمنا بها إلى غاليري “زاموا” حيث يشغل مديرا له.

زاموا الذي يُعتبر من البيوت القديمة في السليمانية، والذي بني منذ تأسيس مدينة السليمانية، أي إلى أكثر من مئة وثلاثين عاما، وتعود ملكيته إلى الكاتب الكردي إبراهيم أحمد والد هيرو إبراهيم عقيلة الرئيس العراقي الراحل مام جلال، من البيوت التي تحمل من العمارة القديمة الكثير: نوافذها، أبوابها، حجارتها، شرفتها، صحنها.. إلخ. كل ما فيها يعود بك عقودا إلى الوراء متماهية مع رؤية القدامى للعالم وللإنسان ولنمطية سكنه، كل ما فيها يحرّك الروح فيك وكأنك في محراب مقدس.

هوس بالاختلاف

فراغات غائبة بين اللون وتدرجاته

هذا الحرص على تحويل البيت الجميل إلى غاليري وحده كافيا على أهميته في مسار تحوّلات الثقافة بأغصانها المثمرة جميعها والتفنّن في سموّه لاستنهاض المتلقي للاقتراب منها على نحو أكثر، وكان يشغل فضاءاته، أقصد فضاءات زاموا أعماله الموغلة بعيدا على درب البحث عن آفاق جديدة، وهذا ما جعلني أقترب من أعماله تلك أكثر، وكأنها تطرح لي نبوءتها الجديدة دون أن يرتدّ عنها ما هو مسكون بهاجس الإبداع والمحكوم بقلق البحث.

وبهاءالدين مسكون بالاختلاف، ولهذا يكشف النقاب عن روحه وهي تتموضع داخل مساحاته البيضاء، فنيران الرؤية تسبقه للتعرّف على الجذور والإمساك بها، فاللاحقيقة تتحوّل إلى حقيقة، واللاحضور إلى حضور وكأنه يُريد أن يثبت مقولة جاك دريدا بذلك، فالأحداث عنده مأزومة من الداخل على الأقل، فلا بد من الخروج دراميا ليحدّد ذاته، وهذا نوع من كمون الذات نفسه الذي لا بد من التدفّق خارجا، هي مشاعره بانطباعات لونية، فتكون أكثر رهافة وهي تمتزج بفرشاته التي لا بد لها أن تلاقي طريقها إلى جمهورية البياض.

بهاءالدين يشحن عمله بدلالات جديدة لها بعدها الرمزي إلى جانب بعدها الجمالي مكرّسا معظم طاقته لاستكشاف عالم بصري يعرف تماما أشياءها وموضوعاتها، فهو يتوجّه بعينيه نحو مصدر الضوء وإلى تلك المناطق الأكثر تضادا بينها.

أقصد بين الضوء والعتمة، وهذه إحدى العمليات التي تجعل ردود أفعاله لاإرادية، من جانبه على الأقل، وبها يكتسب مرونة حين ينظر ويقترب إلى/ من أنماط بصرية مختلفة لها تفضيلاتها المتّسقة، وهذه إمكانية يمتاز بها وتدفعه نحو امتلاك جذور البناء الأساسية إن كان في الإدراك عامة أو في الإدراك الفني خاصة، ما يجعله في حالة من التأمّل الدائم لا ليُعيد الثقة التي قد تتدحرج أحيانا في تحديدات الوجود، بل لينزعها.

أقصد هنا الثقة ويغرسها في عمقه وهذا شكل من أشكال استعادة الوجود بوصفها لحظات مؤقتة وضرورية في الوقت ذاته، بوصفها مجازات متوالدة عن أزمان غير عاجزة عن إفراغ نبضاتها، عن إعطاء الضمان للمشهد الذي حظي بالقيم العليا التي تتحدّث عن عبقها تزامنيا مع ما يرسم ومع ما يحدث دائما على السطوح من تفاهمات تكسر كلّا من البعد الزماني والبعد المكاني بين المتلقي وما يشاهده ويسمعه من تلك التفاهمات على تلك السطوح.

انبعاث وتلقّ

دوران راقص شكلا ومعنى
دوران راقص شكلا ومعنى

 بهاءالدين وفي محاولاته لفهم العالم يبدأ بإعجابه بكل ما يمجّد حياة الإنسان وبالدوائر التي يعوم فيها، وما الأقواس والحركات المائلة لخطوطه إلاّ تردّدات لرؤيته تلك، ملخّصا بها فلسفته حول سؤال الفن، فهو عميق في روحه إلى حد الرعب، ولا ينسى أن يذهب نحو تأسيس رابطة لونية بين تكويناته المختلفة محقّقا ذاته فيها، مستدعيا انتقاءاته ليقصي بها نحو ارتقاء قواعدها التي تمنحه امتيازا خاصا، والتي ستقوده بعلاقاتها والتي ستستوعبه وتستوعب انفعالاته إلى فعل التنقل في الفضاء، إلى خلق حالة تواصلية تربط المرئي بالمتواري، والمحتمل بالمتحقّق، فالأشياء الحافلة بالصور والموضوعة ضمن اختياراته لا بد أن تقبل ما يأسرها وما يجعله يحرّر العين من قيود الموضوع والتأطير.

فالمهمة المؤولة له محكومة بحركات قادرة أن ترسي دعائم سياقاته الخاصة، ويمكن النظر إليها باعتبارها أفقا نهائيا داخل مسار تأويلي يمكن الوصول إليه في نهاية الأمر كنقطة إرساء دلالية، ويعدّ هذا الأفق شكلا نهائيا عليه ستستقر السيرورة التأويلية، ويمكن القول إن الأشكال التعبيرية المختلفة التي يفرضها نمط بنائه ما هي إلاّ انبثاقات جمالية تتقفّى أثر تلك السيرورة التي أُنتجت وفق دلالات معينة، وبفضل ترتيب الإشعاعات الضوئية ومنابعها، وبفضل حركتها وسرعتها واتجاهها، فهو يرسم الفضاء ذاته المليء بأنماط قيميّة هي في طور التوتّر بين حالتي الانبعاث والتلقي.

اللاحقيقة تتحول إلى حقيقة في لوحات بهاءالدين، حيث نيران الرؤية تسبقه للتعرف على الجذور والإمساك بها

وهذا يعني الإقرار بأن المساحة التي يرتادها بهاءالدين تشهد أسلوبه المستقل المبني على كشف مفرداته فيها، تلك المفردات التي تسمح له بمنح الضوء طاقة غير عادية طالما كان هدفه القبض على العوامل المبعدة بكل تجلياتها.

ويمكن القول أيضا إن بهاءالدين شغوف بالإقامة وسط الفراغات الغائبة بين ألوانه وتدرجاتها، شغوف بالمضي بمشهده بعد أن يشعل فيه نمنماته ونقوشه كنوع من رومانسية المكان وتاريخيته، بل كنوع من التقسيمات التي يقع قبلها ما هو مطموس ومغلق فيعلن عنها داخل عائلة فلسفته وبين سطورها هائما في المكوث خارج الاختلاف وداخله، مظهرا نفسه حاضرا في الوجود، ملزما بربط التاريخ نفسه بحلمه في أدقّ تفاصيله، شغوفا بتجاوز مفهوم العمل المغلق إلى المنفتح على تأويلات لا نهاية لها، كل ما فيه يمنح مفاتيحه لمتلقيه بوصفه محفّزا لنفخ الروح فيه.

والخلاصة أن مشاهد بهاءالدين لا تفقد ذاتها، بل تعيد اكتشافها مرة بعد أخرى، إن كانت من خلال التمثل لتخيّلاته التي يعمل عليها على نحو متزامن مع تعزيز وتدعيم (الأنا) ووجودها، أو كانت من خلال استثارة الانتباه وتولّد التوقّعات التي يسعى من خلالها لإشباعات جديدة دون أن تقع في قبضة الغموض أو ما يفقدها من مستوياتها الدلالية أو التركيبية.

15