رئيس وزراء عصبي غير متفرغ للولاية العامة في الأردن

هذه السريالية تنبئ بالطبائع الشخصية لرئيس الوزراء وتعكس الحالة التي وصل إليها هذا المنصب خلال العقود الأخيرة في المملكة، حيث يعلم الناس جيدا الحدود المرسومة لرئيس الوزراء في اتخاذ القرارات والمواقف.
السبت 2021/11/13
عصبية رئيس الوزراء غير قابلة للمراجعة أو التهدئة

يُعرف عن رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة بأنه “عصبي” المزاج وسريع الغضب لكنّ أحدا لم يلاحظ حدة انفعاله في أي من الجوانب الرئيسية المرتبطة بالحكم ولم يُسجل له أي اشتباك حول صلاحياته الدستورية في “الولاية العامة” على البلد.

اشتباكات رئيس الوزراء هي مع أشخاص وحول مسائل ينبغي أن تكون على الهامش وألا تثير اهتمام مسؤول بهذا المنصب، من المفترض أن لديه ما يكفيه من العمل للانشغال عما دونه من معارك هوائية، هي آخر ما يحتاجه الأردن الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة وتحاول أجهزة الحكم الخروج بصيغة ممكنة للإصلاح السياسي.

مواطن قال إن زوجة رئيس الوزراء تتقاضى مبالغ من مؤسسات حكومية دون وجه حق. اختار الخصاونة التوجه إلى القضاء والمطالبة بتعويضات مالية من كميل الزعبي المعتقل منذ حوالي أسبوعين.

نائب جلس على المقعد المخصص لرئيس الوزراء في البرلمان إظهارا لاحتجاجه على رفع الأسعار. الخصاونة يغضب ويغادر مع فريقه الحكومي أولى جلسات الدورة الاستثنائية الأخيرة لمجلس النواب.

يراقب الناس هذا الأداء الفولكلوري ويتسلون به في حياتهم وسبل عيشهم التي باتت تضيق يوما بعد يوم حتى انطبع في أذهانهم أن الحكومة والبرلمان في واد، والحكم الحقيقي في واد آخر

لم يشهد الناس أي غضبة للرئيس حين ارتفعت نسبة الفقر بين السكان إلى الربع وبطالة الشباب إلى النصف والدين العام إلى 50 مليار دولار، متجاوزا قيمة كل ما ينتجه البلد من سلع وخدمات.

ماذا لو جلس الخصاونة على أي مقعد متاح وكان أكثر تفرغا لجدول أعمال الدورة التي ازدحمت بـ11 مشروع قانون؟

لم يلاحظ الناس أي ملامح انفعال على رئيس الوزراء تجاه الحالة الحقوقية في المملكة وتقارير المنظمات الدولية والمحلية التي تنبه إلى مخاطر تقييد الحريات العامة واعتقال الناشطين وزيادة القيود على حرية التعبير.

نائب آخر قال لرئيس الوزراء “اتق الله” في معرض مطالبته بإصلاح طريق دولي يمر في دائرته الانتخابية، فما كان من الخصاونة إلا أن رد عليه بعبارات أوصلها الغضب إلى مستوى غير مفهوم “أنا متقي الله من قبل 5 آلاف سنة ولبعد 5 آلاف سنة”!

هذا الموقف على عجائبيته، احتاج إلى وساطة من أحد النواب لعقد “صُلحة” بين زميله ورئيس الحكومة في “عزومة” طويلة عريضة حضرها نواب ووزراء وأولمت فيها المناسف ليتناول فيها المتخاصمان الملح والزاد معا ويطويا صفحة الخلاف العميق!

هذه السريالية ربما تنبئ بالطبائع الشخصية لرئيس الوزراء لكنها بالتأكيد تعكس الحالة التي وصل إليها هذا المنصب خلال العقود الأخيرة في المملكة، حيث يعلم الناس جيدا الحدود المرسومة لرئيس الوزراء في اتخاذ القرارات والمواقف.

ما يعتبره الأردنيون تغوّلا على الحكومة من أجهزة الحكم الأخرى، يمثل العامل الأساسي في تحجيم دور رئيس الوزراء ووضع إطار صارم ومتفق عليه حول هامش التحركات المسموحة للحكومة، مع أن الدستور أناط بها “مسؤولية إدارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية”.

هذه “الولاية العامة” تخلّى رؤساء الحكومات المتعاقبة عن أبرز مقوماتها، حتى بدا شاغل المنصب التنفيذي الأول مثل موظف في الإدارة الوسطى يؤدي ما يُطلب منه وحسب، إلى أن يتم استبداله سريعا بموظف آخر في المملكة التي اعتادت على كثرة تغيير الحكومات بمعدل حكومة جديدة كل سنة.

أليست معارك الخصاونة مناسبة ومنسجمة مع الحجم الحقيقي الذي باتت تنحصر فيه سلطات رؤساء الوزارات في الأردن؟ وعند ذلك لا ملامة ولا حرج في اعتقال كميل الزعبي بمداهمة أمنية وإصرار رئيس الحكومة على إكمال إجراءات التقاضي ومنها طلب تعويض بقيمة 28 ألف دولار من الزعبي الذي يبيع القهوة على الطريق.

لم تكن الحكومات هكذا في فترات سابقة من تاريخ المملكة. وفي مثل هذه “المعارك”، يتذكر الأردنيون رئيس الحكومة الراحل وصفي التل الذي شغل المنصب في ستينات القرن الماضي. وقال ذات يوم تعليقا على سجن مواطن شتمه “يلعن أبووصفي التل الذي تسجنون الناس من أجله”.

من نافل القول إن على شاغلي المناصب العامة أن يتحملوا النقد وما هو أكثر منه أحيانا. غير أن رئيس الوزراء لم يتراجع، رغم كثرة المناشدات والدعوات، عن الشكوى القضائية ضد الزعبي التي قال إنه تقدم بها بصفته “الوظيفية والشخصية”.

لم يلاحظ الناس أي ملامح انفعال على رئيس الوزراء تجاه الحالة الحقوقية في المملكة وتقارير المنظمات الدولية والمحلية التي تنبه إلى مخاطر تقييد الحريات العامة واعتقال الناشطين

عصبية رئيس الوزراء غير قابلة للمراجعة أو التهدئة أو صرف النظر، وتظهر على خط آخر بعيد حتى عن توجهات العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني الذي أمر قبل أشهر بوقف الملاحقات في القضايا التي تتضمن إساءة شخصية له أو ما تعرف بـ”إطالة اللسان”.

وفي اشتباكاته مع النواب، ربما لا يلام الخصاونة أيضا وهو يعلم، مثل كل الأردنيين، بأن البرلمان ما هو إلا ديكور آخر في مؤسسة الحكم وأن ما يشهده الناس من مجلس النواب لا يعدو عن كونه استعراضات وشعبويات موجهة إلى الناخبين ووسائل الإعلام. وبالتالي فالاستعراض مسموح أيضا لرئيس الوزراء!

يراقب الناس هذا الأداء الفولكلوري ويتسلون به في حياتهم وسبل عيشهم التي باتت تضيق يوما بعد يوم حتى انطبع في أذهانهم أن الحكومة والبرلمان في واد، والحكم الحقيقي في واد آخر، ولربما هم أيضا في واد ثالث.

أما كان باستطاعة رئيس الوزراء الرد على النائب الذي دعاه إلى تقوى الله بالقول مثلا “شكرا. أنا أتقي الله”؟ لعل الله “يجعل لنا مخرجا” مما نحن فيه من أزمات.

8