قبضة أمنية ترافق الإصلاح السياسي في الأردن

إذا كانت الاعتقالات تهدف إلى إسكات الناشطين ومنعهم من الحديث عن عقارات الملك وغيرها من القضايا الحساسة فهذا الأسلوب القديم قد يأتي بنتائج عكسية لا تفيد السلطة ويمثل نقضا لتعهداتها.
السبت 2022/02/19
ما مدى جدية الإصلاح السياسي في الأردن؟

من غير الممكن فهم الاعتقالات الأخيرة في صفوف الناشطين الأردنيين وملابسات اعتقالهم بناء على ما كتبوه في مواقع التواصل، إلا ضمن سياق من عدم الجدية في وعود الإصلاح السياسي ودليلا على أن القبضة الأمنية لم تفتر.

اعتقال تسعة نشطاء بمداهمة منازلهم في أماكن مختلفة وفي ليلة واحدة دون أي إعلان رسمي أو توجيه اتهامات، يعني أن ثمة رغبة في التخويف والردع وتقويض الحجر الأساس في المشاركة السياسية.

ينشغل الأردن منذ الصيف الماضي بتوسيع المشاركة السياسية بما فيها من تعديلات دستورية وقانونية، تحيطها مؤسسة الحكم بهالة من التفاؤل والانفتاح والضمانات، لكنها لا تتحمل تدوينات وتعليقات النشطاء على ما يجري في البلد.

غالبية الناس تتوخى الحذر وتلجأ إلى الترميز في الكتابة على شبكات التواصل، خصوصا في القضايا الحساسة على غرار قضية الأمير حمزة ووثائق باندورا وأخيرا تعزيز سلطات الملك في الدستور.

لكن في الأردن “دوريات إلكترونية” تجوب الإنترنت ويتيح لها القانون ملاحقة المدونين. وإذا أدرجتَ منشورا على فيسبوك أو تغريدة على تويتر مثلا، فأنت لست مسؤولا عن مضمونها فقط بل عن كتابات المعلقين وتفاعلهم أيضا.

والأردن محكوم منذ حوالي سنتين بقانون الدفاع الذي يخوّل الحكومة صلاحيات واسعة كما لو كانت البلاد في حالة حرب، بحجة التسهيل في إدارة أزمة الوباء. واستخدمت الأجهزة الحكومية القانون مرات عديدة في فض احتجاجات واعتقال نشطاء.

وسبق أن طالب سياسيون ومثقفون وكتّاب ومنظمات حقوقية بوقف العمل بأوامر الدفاع وتولي السلطات الصحية احتواء الوباء مثلما يحدث في دول كثيرة من العالم، لكن أجهزة الحكم ظلت تدافع بقوة عن تطبيق القانون الاستثنائي.

كان في وسع أجهزة الأمن استدعاء النشطاء التسعة وتوجيه اتهامات واضحة لهم ثم محاكمتهم. لكن دهم المنازل وتزامن عمليات الاعتقال يعني أن ثمة انتقادات موجهة للعاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.

اللامبالاة الاختيارية القائمة منذ زمن تجاه الانتخابات والبرلمان والأحزاب، قد تتحول الآن نحو اللامبالاة الإجبارية التي يقف وراءها الخوف من الاعتقال والمحاكمة وفقدان الأمل في تغيير حقيقي يتيح مشاركة الناس في حكم أنفسهم

وفي ظل التكتم الرسمي عن أسباب الاعتقال، تم ربط الحملة على النشطاء مباشرة بتصريحات المعارض السياسي ليث شبيلات الذي دعا إلى فتح ملف العقارات المملوكة للعاهل الأردني والتي كشفت جزءا منها “أوراق باندورا” حين نشرها صحافيون استقصائيون العام الماضي.جهة رسمية وحيدة تناولت الاعتقالات هي المركز الوطني لحقوق الإنسان الذي طالب بحماية الحق في التعبير عن الرأي والإفراج عن النشطاء، وذلك دون الإشارة إلى طبيعة الاتهامات الموجهة إليهم.

يجرّم القانون الأردني انتقاد الملك، غير أن الملك نفسه أصدر قبل ثلاثة أشهر عفوا يشمل 155 محكوما في قضايا “إطالة اللسان” التي تصل عقوبتها إلى السجن ثلاث سنوات، لكنّ ذلك لم يمثل لدى أجهزة الأمن أي إشارة إلى تخفيف الإجراءات ضد النشطاء المعتقلين.

ولم تشفع للناشطين أيضا أجواء الإصلاح السياسي ووعود المشاركة الشعبية في البلد الذي يخلو من أي معارضة حقيقية ومنظمة، وإن كان ثمة عدد من المعارضين علنا لسياسات الحكومة في الأردن وخارجه.

لعل الهدف من المداهمات هو محاصرة شبيلات الذي دأب على توجيه الانتقادات المباشرة إلى الملك عبدالله الثاني وقبله الملك الراحل الحسين بن طلال، لكنه طالب هذه المرة بتفويضه شخصيا لإعادة ما سماها “المنهوبات الملكية”، في إشارة إلى العقارات المسجلة باسم العاهل الأردني.

لا يوجد في الأردن مُعارض بالسقف الذي يتحدث به شبيلات، في حين تغيب المعارضة الفعلية الوازنة عن المشهد السياسي، برلمانا وأحزابا ووسائل إعلام. وهكذا لم يبق للناشطين إلا صفحاتهم على مواقع التواصل للتعبير عن آرائهم.

السلطات لم تعتقل شبيلات، وقد اعتادت على التعامل معه على مدى عقود بطريقة المد والجزر، مثلما اعتاد الناس على أسلوبه في الانتقاد الذي لا يعجب الكثيرين منهم ويعتبرونه تثويريا ولا يأتي بنتيجة.

لكن شبيلات أعاد قضية وثائق باندورا عن الأردن إلى الواجهة بعد أن أغلقها الإعلام الحكومي وشبه الحكومي منذ أشهر وصار الخوض فيها من المحظورات التي من شأنها أن تقود إلى السجن والمحاكمة.

إغلاق الملف لا يعني أن كل تساؤلات الرأي العام لقيت أجوبة رسمية مقنعة كما يعني أن الشفافية التامة لم تكن متوفرة مثلما هي حالها مع ظروف وملابسات الاعتقال والاتهامات الموجهة إلى النشطاء التسعة.

وما دامت المسألة مرتبطة باعتقال هذا العدد من النشطاء مرة واحدة، فهي ليست هامشية ولا تستحق التجاهل، على الأقل بالنسبة إلى السلطة التي من المفترض أنها في حاجة الآن إلى تشجيع الأردنيين على الانخراط في العمل السياسي وإقناعهم بأن العوائق الأمنية باتت من الماضي.

إذا كانت الاعتقالات تهدف إلى إسكات الناشطين عموما ومنعهم من الحديث عن عقارات الملك، أو غيرها من القضايا الحساسة، فهذا الأسلوب القديم قد يأتي بنتائج عكسية لا تفيد السلطة، ويمثل نقضا لتعهداتها بتحديث منظومة الحكم ودفعا للمزيد من الناس نحو اتخاذ طريق اللامبالاة.

اللامبالاة الاختيارية القائمة منذ زمن تجاه الانتخابات والبرلمان والأحزاب، قد تتحول الآن نحو اللامبالاة الإجبارية التي يقف وراءها الخوف من الاعتقال والمحاكمة وفقدان الأمل في تغيير حقيقي يتيح مشاركة الناس في حكم أنفسهم.

9