المطلوب السكوت عن فساد الغذاء في الأردن

ليس بالضرورة أن يكون حديث المسؤولة السابقة في وزارة الصحة عن وجود آثار مسرطنة بنسب عالية في الأغذية الأساسية التي يتناولها الأردنيون، دقيقا وحقيقيا تماما من الناحية العلمية مع أنه يستند إلى بحث موسع منشور في إحدى المجلاّت العالمية المتخصصة بعلوم الغذاء.
وكان يكفي الناس حتى الآن لو اتخذت الأجهزة الحكومية المختصة قرارا فوريا بإخضاع المواد الغذائية محل البحث للفحص المخبري على يد لجنة فنية مستقلة ومحايدة، لا تسويف فيها ولا مماطلة.
لكن لجوء الحكومة إلى القضاء وتحريك دعوى بالحق العام ضد المسؤولة السابقة لم يكن متوقعا وأثار ارتيابا وتساؤلات ملحة لدى الرأي العام عن سلامة الأغذية التي يتناولها 11 مليون إنسان، وحول المماطلة في الوصول إلى الحقيقة وعرضها على الناس.
ذكرت المديرة السابقة لمختبرات الغذاء والدواء في وزارة الصحة الأسبوع الماضي بناء على البحث الذي أشرفت عليه، أن ما يستورده الأردن من قمح وأرز وحليب وأسماك يحتوي على مواد مسرطنة ومركبات كيميائية ممنوعة ومسببة للأمراض بأضعاف مضاعفة عن النسب المسموح بها دوليا.
الهجوم الرسمي وشبه الرسمي على الدكتورة سناء قموه على سبيل تفنيد تصريحاتها، جاء بنتائج عكسية لدى الأردنيين الذين أخبرتهم التجارب السابقة أن الفساد والإهمال لا يوفران أي مؤسسة عامة، وأن وراء الأكمة ما وراءها في هذه القضية.
قبل حوالي ربع قرن أصاب وزير الصحة الراحل عبدالرحيم ملحس الأردنيين بصدمة كبيرة حين قال حرفيا وهو على رأس عمله إن “حيتان الغذاء والدواء يريدون إطعامنا زبالة العالم”.
وبعد أزمة استمرت على مدى أشهر، خرج ملحس حينها من الحكومة مستقيلا أو مقالا ولكن بشعبية واسعة أهّلته للفوز في الانتخابات البرلمانية لاحقا. وبعد سنوات رحل ملحس عن عالمنا كله، ويبدو أن “الحيتان” لا يزالون باقين وإن تغيرت الوجوه والأجيال.
في 2018 أيضا، أثار مدير المواصفات والمقاييس في حينها حيدر الزبن مخاوف الناس على غذائهم ودوائهم وكشف عن وجود فساد وإهمال في الامتثال للمعايير العالمية في الاستيراد وخصوصا المواد الأساسية ومنها الأغذية. وسرعان ما أحيل الزبن إلى التقاعد.
التجارب كثيرة في هذا السياق ولطالما سمع الأردنيون أن الدولة تكافح الفساد ولكنهم لا يرون شيئا ملموسا على الأرض ولا في المحاكم. حتى أن “مكافحة الفساد” لم تغب عن البرامج التي تعلنها الحكومات المتعاقبة مع كل تشكيل وزاري جديد. وما أكثر تشكيلاتنا الوزارية!
دائما يقوم الرد الرسمي على سياسة الإنكار المعهودة والتي تعني أن على المسؤول الحكومي الدفاع عن مؤسسته أمام الانتقادات ولو على غير هدى، في حين يتولى أصحاب المصالح المحيطين بالمؤسسة من تجار ورجال أعمال وشخصيات نافذة، الدفاع عنه وعن مؤسسته.

الانتقادات هذه المرة ليست سياسية وليس فيها مجال لطرح الآراء الشخصية ولا الصراخ ولا تجدي معها النغمة الخادعة إياها: تشويه صورة البلد وإلحاق الضرر بالاقتصاد. ولا علاقة حتى لوسائل الإعلام في الأخذ والرد.
قالت الحكومة كل ما تريد قوله من تطمينات لا تطمئن أحدا في ظل غياب الثقة المزمن بين الناس والأجهزة الرسمية. وتعدت الردود الحكومية مستوى النفي الجزافي المعتاد إلى درجة تسفيه نتائج البحث دون تقديم أدلة علمية.
البرلمان الذي فيه ما يكفيه من الضعف لا يمثل أيضا ساحة للنقاش في هكذا مسألة. ولكنه مع ذلك انبرى للإدلاء بدلوه ويا ليته ما فعل. فقد استمع في جلسة خاصة إلى مدير الغذاء والدواء وعدد من المختصين ليس بينهم المسؤولة السابقة، وخرج بالمطالبة المعروفة: تشكيل لجنة تحقيق.
الآن صار الأمر بيد القضاء الذي لم يُعرف على وجه التحديد ما الذي سيبتّ فيه أو ما طبيعة الاتهامات التي يمكن أن توجه إلى المسؤولة السابقة عن تصريحاتها المأخوذة من بحث علمي.
الحكومة سارت في كل الاتجاهات إلا الاتجاه المطلوب والبديهي، وهو أن تكون الساحة الوحيدة للمحاججة في قضية كهذه هي المختبرات ونتائج الفحص ما دام الأمر مرتبطا بنسب كيميائية ومعادلات علمية مضبوطة من الناحيتين الصحية والطبية ومتعارف عليها دوليا.
هل كان المطلوب من الدكتورة قموه أن تسكت؟ نعم. فالبحث منشور منذ حوالي ثلاث سنوات وتحديدا في يناير 2019، والحكومة على علم تام بنتائجه ولكنها لم تحرّك ساكنا منذ ذلك الحين. وهذا بحد ذاته يمثل تقصيرا كبيرا من وزارة الصحة وأجهزتها وينبغي أن تُسأل عنه، باعتبارنا في “دولة مؤسسات وقانون”.
وبدلا من تحويل ذلك كلّه إلى جهد جاد وموحد قائم على التحليل العلمي الرصين الكفيل بالوصول إلى حقائق مسنودة بالأرقام والنسب والمعادلات الضامنة لحقّ الناس في غذاء آمن، اختارت الحكومة أن تضع نفسها في مواجهة مع مسؤولة سابقة مختصة كان يتركز عملها الفني على فحص المنتجات الغذائية والدوائية.
كل ما فعلته الحكومة حتى الآن هو تعزيز التصور المسبق لدى الرأي العام بأن ثمة فسادا أو على الأقل، إهمالا يستفيد منه “الحيتان” الذين يضغطون للمحافظة على مكاسبهم ضمن دائرة أصحاب المصالح التي تحيط عادة بالأجهزة الحكومية وتتنفّع من بقاء الحال على ما هو عليه.