فنانة مغربية تبحث عن لون غير مكتشف عبر طقوس صوفية

ليست العلاقة بين الفن التشكيلي والكتابة بجديدة، بل إن أغلب الفنانين التشكيليين يؤلفون ما لا يقال في أعمالهم، فيما نجد أيضا بعض الكتاب الذين بدأوا رسامين أو حاولوا الرسم، لذا فالمزج بين الكتابة والإبداع التشكيلي يمثل تلاقيا خلاقا، لاسيما كما نراه في عوالم الفنانة التشكيلية المغربية لبابة لعلج التي مهدت أرض الصوفية والفكر الصوفي وتجلياته للقاء بين عالمي الكتابة والرسم عندها فكانت أعمالها نوافذ على مجاهل روحها هي وأرواح الكون التي تحاول رصدها بشطحات ريشتها المثقلة بالأفكار.
ما الفن إن لم يكن تفكيرا، إمعانا في الوجود وتأمل الموجود. بل إن مهمة الفن تكمن في التفكير، حيث إن “الفن يُفكر”.
فإن كان الكاتب يستعين بالكلمات، فالفنان يستعين بالصورة، وكلاهما أداتان للتعبير عما يفكر فيه المبدع/ الإنسان/ الفرد.
والفن إن يُفكر فهو يتأمل الوجود بوصفه حضورا مستداما في الزمن ومتحركا فيه. والعمل الفني خاضع لسلطة الزمن وتغيراته، أي حركية “الحاضر”، ما يهبه قراءات متحركة ومتغيرة ومتطورة مع الزمن.
وإن كان المنجز ابن ثقافة ما ينغمس فيها، ويتجلى من خلالها، فبفعل حركية الزمن يكتسي حضورا متعددا، يجعله غنيا بدلالات تتراكم وتتعدد مع كل قراءة جديدة، ما يجعله يدخل في عملية تفكير موضعا لها ومُنتجا ومولدا للأفكار، من حيث إنه دفعة إلى “الرغبة في التفكير”، بمعنى أدق إنه “يُفكر”.
أنا أصالة الصوفية
أعمال لبابة لعلج يحق أن نصفها بأنها تفكير بالتصوف، تفكير في حالات الوجود حاضرا، لكن ليس عبر المباشرة
“اخترت لحظة من حياتي كي لا أرى سوى جزء من الأشياء في شكل شذرات” تقول الفنانة التشكيلية والكاتبة المبدعة المغربية لبابة لعلج في كتابها الجديد.
من هذا المنطلق نلج عوالم لبابة لعلج؛ إذ في جو من الروحانية الصوفية القادمة من عمق التاريخ المغربي، وسط رياض “دار الشريفة” بمراكش الذي يرجع زمن تشييده إلى القرن 16 ميلاديّا، أقامت هذه الفنانة المولعة بعوالم الصوفية معرضها “أفكار شاردة”.
و”أفكار شاردة” هو العنوان عينه الذي يحمله كتابها الصادر حديثا، والذي تم تقديمه وتوقيعه ضمن فعاليات المعرض الفني.
تعمل لعلج على إظهار تلك العملية التفكيرية التي يقوم بها الفن من خلال العمل الفني، لكن من زاوية صوفية صرفة؛ إذ بقدر ما يُفكر المنجز لديها، فهو يتخذ أفكاره من خلال تلك الشطحات والجذبات والمقولات والوقفات والمقامات الصوفية التي تبدو شاردة منزوعة من سياق غرائبي ورمزي وذاتي، يجبرنا على إعمال التأمل والتفكير والتحليل وحتى التفكيك.
فبقدر ما نقترب من معانيها نبتعد، وبقدر ما نظن أننا أمسكناها من تلابيبها تنفلت من بين أصابعنا، كما ينسكب الماء.
تقول في كتابها “أنا أصالة الصوفية (…) أعيش الجذبة التي تخلص بالرقص ما يفرض الرقص”.
الكتابة بالصباغة
أعمال لبابة لعلج يحق أن نصفها بأنها تفكير بالتصوف، تفكير في حالات الوجود حاضرا، لكن ليس عبر المباشرة أو إعمال التمثيل والاستعانة بأي منظورية كانت، قد تؤطر المنجز وتجبره على أن يُفصح عن مكنوناته دون عناء أو تفكير. إذ عبر كتلها الصباغية ومساحاتها اللونية وتداخلات الأشكال لديها، في رقص وشطح صباغييْن، تُجبر المتلقي على أن يتأمل العمل من زوايا متعددة، ما يمنحه تأويلا مضاعفا، إذ إن “الحركة تتلون بالأضداد” لديها، كما تُفصح عن ذلك في كتابها. إلا أن هذا التضاعف يوجد ضمن المنجز لا لدى المتلقي، ومن هنا يكتسي عمل لعلج غناه وتعدده.
تقول الفنانة في كتابها “أنا تلك التي أسعى إليها، أستنفد أشكالي المتعددة في اللامنتهي”.
تكسر الفنانة أفق الانتظار والأبعاد التصويرية، لكنها لا تقيم عند أي تجريد مطلق، إذ تجعل من غنائية الصباغة مطية لتركيب “شذراتها” وأفكارها، ومقروئيتها وما عاينته وعاشته، في أعمال صباغية تقدم نفسها للناظر على أنها “نصوص صوفية”.
لهذا في نظرنا قد نجحت في اختيار مراكش لعرض أعمالها “الشاردة”، داخل فضاء “تشتم” فيه روائح البخور القديمة التي كانت تستحوذ على أجواء المكان.. وتستشعر فيه دبيب خطوات رجال التصوف، والرجال السبعة، الذين زاروا “المقام” أو سكنوه.
تكتب لعلج بالكيفية التي ترسم بها، إنها بهذا المعنى ترسم ما لم تستطع الكتابة قوله وتكتب ما لم تستطع الصباغة رسمه. غير أنها تكتب وترسم صوفياً، إذ تحضر في أعمالها الصورة الرمزية وتكثيف للدلالة. وهذا لهو ما تنطلق منه كل الكتابات الصوفية للتعبير عن تلك الحالات اللامرئية للإنسان وفيه، وعن الشطحات التي يستحيل قولها قولا بسيطا مباشرا.
وبالمقابل فاللوحة لدى لعلج هي تكثيف للدلالة وحضور طاغ للرمزية، ما يجعل أعمالها المعروضة خاضعة لجدلية الظاهر والباطن، جدلية صوفية بحتة، يفرضها حضور الرمز من حيث إنه “حضور الكلام الذي يعطي ظاهره ما لم يقصده قائله”، وهو المعنى الذي يسقط حتى على الصور الرمزية الصباغية.
تكتب الفنانة “أنت، يا نار المخاوف، بدأت تشعرين بالبرد الشديد حتى اعتقدت أنك ذبت جليدا!”.
بالتالي، فأعمال لعلج كتابة وصباغة هي بنية موحدة. تعتمل التفكير بالتصوف وعبره. فإن كانت الكتابة (في البعد الصوفي) لا تنتهي عند المؤلف، بل تستمر وتتقوى عند كل قراءة، فيما يشبه لذة النص البارتية.. فالأمر يقاس عليه أيضا على المستوى التشكيلي عند لعلج، إذ عند كل عملية “نظر” تعرف اللوحة حياة بديلة، أو بمعنى آخر قراءة مغايرة، ما يمنحها لذتها وحيواتها المتعددة. فنقرأ في الكتاب: “يمكن لتجربتي أن تساعد الآخر على رؤية بجلاء، مع احترام اختلافها، الأمر برق في سماء داكنة”.
البحث عن الغريب
لا يمكن إذن قراءة كتاب “أفكار شاردة” للمبدعة لبابة لعلج دونما الوقوف عند مجموعة أعمالها الأخيرة التي احتضنتها جدران “دار الشريفة” العتيقة، وأيضا لا نستطيع ذلك بمعزل عن البعد الصوفي وعملية التفكير التي تفرضها الأعمال الفنية والفن معا.
يضعنا الدكتور عبدالله الشيخ في ترجمته إلى العربية لهذا الكتاب، الذي خُطّ بالفرنسية، أمام نصوص نابعة من أعماق الذات، نابعة من التفكير في الوجود والاغتراب. فالكتابة الصوفية، وهي لغة هذا الكتاب، تبتغي منا إعمال التأويل، “جاعلين من القراءة فعل حب وافتنان بالجمال، وفعلا لتعميق الوعي بالاغتراب والنزوع نحو اكتشاف العمق البدائي للإنسان الذي ينتزعه من الرتابة والتكرار اليومي، أي حركة البحث عن المجهول، عن الغريب، عن اللامعروف” (“الكتابة والتجربة الصوفية” لمنصف عبدالحق).
فأي مجهول وأي غريب ومن/ ما اللامعروف الذي تسعى للبحث عنه لبابة لعلج؟
“بحثت في كل مكان عمن سيساعدني على الترعرع والتفوق على ذاتي”، تخبرنا المبدعة. وهنا نلحظ بقوة صوت “الأنا”، صوت الذات، وهو صوت الحداثة بامتياز، وصوت الصوفي الذي يعلن عن ذاتيته مركزا لحلول الإلهي فيها: اتحادا وحلولا.
ومن ثم فإن الصوفي حداثي بامتياز؛ “مفكر” في الوجود يعلي من “أناه”. لهذا تقول الفنانة “أسيرة أناي أشبعت الرغبات الأبدية، قررت التعرف أكثر على نفسي”. فتصير الذات هي الغريب واللامعروف المبحوث عنه، المفكر فيه وعبره “أنا الملاحِظ والملاحَظ معا”.
ونلمس هذا البعد البحثي حتى في الأعمال الصباغية، التي بقدر ما تنطلق من ذاتية الفنانة تسعى للكشف عن المغترب الذي يسكنها، عن اللامرئي فيها. ولأن الصوفي مرآة للوجود تغدو الأعمال مرآة لذاتية كل مشاهد يغترب في العمل وهو يلجه متأملا وحالما.
الحبل السري
ن الكتاب وأعمال المعرض متكاملان، مرتبطان في ما بينهما بحبل سِرّي جذموري خفي، لا يمكن إدراكه إلا بإمعان النظر والقراءة المكثفة. إذ بقدر ما هي “أفكار شاردة”، فهي لا تتجمع وتتحد إلا من خلال الجمع بين فعل القراءة وفعل النظر، من خلال الترحال بين عوالم اللوحة (الشكل واللون) وعوالم النص (الكتابة واللغة).
وعموما، يخبرنا الناقد الفني حسن لغدش “حاول نص لبابة لعلج تطبيق المقياس (بارومتر) على الروح كما قال جاك روسو، مسجلا تغييرات الحالة الداخلية التي تنكسر فيها كل التغييرات الخارجية. في ارتباط وثيق، الحياة والفكر والكتابة أدوات تجربة حيث دراسة الأنا والآخرين في فرادتهم وغرابتهم هي الوسيلة الوحيدة لبلوغ معرفة الإنسان الحقيقية، وارتياد مغامرة داخلية تساوي كل الرحلات”.
ونحن هنا إزاء رحلات ذهابا وإيابا بين النص المكتوب واللوحة المرئية، “لوحة آتية من بعيد، يخبرنا الناقد حسن نرايس، والقصيدة لوحة هاهنا، بالألوان تارة، وبالأسود تارة أخرى، لوحات شعرية تخترق التفاصيل وتعيد ترتيب الفرد بالذات في مكان حيث لامكان، في زمن حيث لازمن!”.
تكتب الفنانة “أحاسيس جديدة تدعوني لرؤية الواحد في مركز لوحتي. أنصهر مع الألوان الصوفية، ومن موقع الملاحِظة أصبح الملحُوظة التي تمكّن الملاحِظ من الانطلاق مجددا بلونه الخاص”.
لون خاص إذن ما تبحث عنه الفنانة لبابة لعلج في أعمالها. لون غير مكتشف بعد، أو لعله غير مرئي، يوجد في أعماق الذات: ذلك الغريب الذي فينا، نقيضنا الذي نحمله معنا أينما ارتحلنا. وهو الأمر الواضح في صباغاتها التي تختلط ألوانها وتمتزج وتتعدد، لتشكل سديما يتيح للامعروف واللامرئي الكشف عن نفسه.