تيار الوعي الباطني تراجيديا عدم التواصل

أسلوب تلقفه الروائيون لرسم شخصياتهم وعوالمها وقليلون من نجحوا فيه.
الجمعة 2021/10/08
كل شيء رهين الكلام الباطني للشخصية (لوحة للفنان محمد خياطة)

من التقنيات التي شاع استعمالها في الرواية الحديثة تيار الوعي الباطني، فالروائيون يلجأون إليه لسبر أعماق شخصياتهم، وتمكين القارئ من التعرف عليها وعلى تشكل أفكارها ورؤيتها للعالَم. إلا أن النقاد يختلفون في تحديد ذلك المصطلح، فما كل ما يتوارد في الذهن من خواطر تيار وعي باطني، فقد يكون خطابا مباشرا على رأي جيرار جينيت، أو تسجيلا فوريّا بعبارة بيير لامبلي.

غالبا ما يدرج النقاد السرد على لسان المتكلم، أو حديث الشخصية إلى نفسها ضمن تيار الوعي الباطني، هذه التقنية السردية التي كانت حاضرة في المسرح الكلاسيكي، ثم راجت بعد أن استعملها فكتور هوغو في رواية “آخر يوم لمحكوم عليه بالإعدام” ودستويفكسي في قصة “رقيقة”، ولكن أوّل من اعتمدها عن دراية، بل ونظّر لها لاحقا، هو الفرنسي إدوار دوجَرْدان، في رواية “أشجار الغار مقطوعة” التي صدرت عام 1887.

 وقد عرّف تيار الوعي الباطني في كتاب يحمل عنوانه هذا المصطلح، وكان قد صدر أول مرة عام 1924، وأعيد نشره عام 1931، بأنه “خطاب دون مستمِع، وغير منطوق، تعبر من خلاله الشخصية عن أكثر أفكارها حميمية، وأقربها إلى اللاوعي، بشكل سابق لكل نظام منطقي، أي أنه في طوره الناشئ، وفي جمل مباشرة، مقلّصة إلى أدنى درجات البنية الصرفية، يصاغ بكيفية تترك انطباعا بأن الشخصية تردّد كل ما يخطر ببالها”.

اختلاف التعريفات

راج استعمال تيار الوعي الباطني منذ أن تبناه جيمس جويس في روايته الشهيرة “عوليس”، ثمّ فرجينيا وولف في رواية “الأمواج”، وتلقفه الروائيون بنجاحات متفاوتة، دون أن تنضوي استعمالاتهم كلها ضمن تيار الوعي الباطني بالضرورة، ذلك أن النقاد اختلفوا في تحديد مفهومه.

الشخصية الروائية حين تبدأ في التحدث إلى نفسها بحثا عن نظام داخل الفوضى فلأنها لا تجد من تتحدث إليه

 الكندية دورّيت كون مثلا تميز ثلاثة أنواع من تيار الوعي الباطني: الحديث المفرد المنقول، والمسرود، والمستقل. المنقول هو ما نجده باستمرار في الرواية التي تستهل بجمل من نوع “عندئذ قال في نفسه…”. أمّا الحديث المفرد المسرود فهو ذلك الذي يعكس الحياة الداخلية للشخصية باحترام لغتها الخاصة، مع الحفاظ على ضمير الغائب وزمن السرد، بينما المستقل هو ما ينقل بأكثر دقة ممكنة الأفكار الحميمة للشخصية، حيث يمحو المؤلف كلّ أثر لحضوره، ويختفي ليترك مكانه لشخصية من صُنعه. وهو المثال الذي تعتقد الناقدة الكندية أنه تيار الوعي الباطني الحق.

بيد أن نقادا غيرها يرون رأيا آخر، فجيرار جينيت يقترح مصطلح “الخطاب المباشر”، بينما يطلق عليه بيير لامبلي من جامعة ليل عبارة “التسجيل الفوري”، ففي رأيه أن عبارتي “حديث مفرد” و”خطاب” لا تفيان المعنى، إذ توحيان بأن الكاتب لم يسجل إلا ما كان يدخل في مجال القول، وتوهمان بأن كل ما هو مكتوب يتعلق بفكر الشخصية وحدها، وأن كل شيء رهين كلام الشخصية الباطني، والحال أن الكلمات يمكن أن تعكس ما يرجع بالنظر إلى الحسّ أو الفعل دون أن تحتاج الشخصية إلى التفكير بوعي في ما تحسّ، فضمير المتكلم في هذه الحالة لا يعكس فقط الأفكار والكلمات، بل يعكس أيضا كل ما يخرج عن مجال الفعل، والحواسّ من بصر وشمّ وسمع ولمس…

ولذلك يخير لامبلي مصطلح “تسجيل فوري”، أي تحويل المنطوق ولو سرّا إلى نصّ مكتوب بحذافيره، فهو يميز بين تيار الوعي الباطني والرواية الباطنية والسرد ذي التسجيل الفوري، مثلما يميز، على غرار جينيت، بين التبئير الداخلي حيث يظل تدخل الكاتب أو السارد حاضرا، عن طريق تخير الأفكار التي يضفيها على بطله، وبين تيار الوعي الباطني الذي يمتنع فيه الكاتب عن أيّ اصطفاء، ليترك بطله يسرد على القارئ كل ما يرد على ذهنه، سواء أكان ذلك هامّا ومنسجما أم مفكّكا غير ذي معنى.

أمّا الرواية الباطنية فهي التي تقوم كلها على سرد باطني واحد يؤثث بنية العمل الروائيّ. وفي اعتقاده أن حديث مولّي بطلة “عوليس” هو تيار وعي باطني، ولكن الرواية ليست رواية سرد باطني، لكونها بالأساس سردية تروي تشكل الفكر ومساره، مقتفية تتابع ذلك التشكل وأسبابه، أي كل العوامل الخارجية، وكل مدرَكات الشخصية التي ستساهم في تجلي ذلك الفكر وتطوره.

التعرف على الشخصية

أيا ما تكن التعريفات، فالثابت أن تيار الوعي الباطني هو نوع من البحث عن نظام داخل الفوضى، والشخصية حين تبدأ في التحدث إلى نفسها فلأنها لا تجد من تتوجه إليه بحديثها، ما يعني أن تيار الوعي الباطني هو تراجيديا عدم التواصل، حتى وإن وجدت الشخصية نفسها مع شخصيات أخرى، كما هي الحال مع شخصيات “الأمواج” لفرجينيا وولف، فعددهم ستّة، ولكن لا أثر لحوار في ما بينهم، بل إن عدم التفاهم هو القاعدة التي يلتقون حولها على مدار الرواية كلها.

تيار الوعي الباطني يساهم في التعرف على الشخصية وأفكارها ورؤيتها للعالَم، لكن التركيز عليه يخلق شخصيات خانعة

يحدث أحيانا أن تستعمل الشخصية تيار الوعي الباطني بالتوجه إلى شخصية غائبة أو متخيلة، كما هو الشأن مع بطل “القبو” لدستويفسكي، أو “آخر يوم لمحكوم عليه بالإعدام” لفكتور هوغو، إما بحثا عن الحقيقة، أو تعبيرا عن رغبة في التواصل.

من خصائص هذا النوع أن البنية السردية ينبغي أن تستجيب لشروط معينة، أولها تجنب البلاغة والصياغة المنمقة لترك المجال لخطاب مخروم، تتخلله تناقضات وتقطعات وارتدادات، وكل ما يصور اشتغال الذهن وقت التفكير، لاسيما في اللحظات المتأزمة، حيث تفقد الأفكار ترابطها وانسجامها وينوب عنها ما يشبه الهذيان. والكاتب إذ يلجأ إليها لا يهمه منطق شخصيته بل مسار تشكل ذلك المنطق، وهو مسار غير منطقي يجري كيفما اتفق.

من خصائصه أيضا الغوص في أعماق الشخصية كي تقدم للقارئ رؤيتها للعالم الخارجي، لكون الداخل، الباطن، مشكَّلا برؤية للخارج، أي أن النظرة هنا تعوّض الكلام.

ما يلاحظ أن هذا النوع من التقنية السردية غالبا ما يحوم حول الموت والجنس، أحدهما أو كلاهما، فرواية إدوار دوجَردان تروي الخيبات الجنسية لأحد الشبان، و”عوليس” جويس كان مأخذ النقاد عليها في الغالب إفراطها في البورنوغرافيا، أما قصة دستويفسكي “رقيقة” فهي حكاية انحراف جنسي وانتحار في الوقت ذاته، بينما هيمنت صورة الصراع ضدّ الموت على أبطال “الأمواج” لفرجينيا وولف، تلك الرواية التي مزجت فيها الكاتبة بين البوليفونية وتيار الوعي، فجاءت جملة من أحاديث مفردة منغلقة على نفسها، فلا وجود لحوار هنا، حيث يبدو وكأن كل شخص يتحدث وحده، طيّ جوانحه.

وإذا كان تيار الوعي الباطني يساهم في التعرف على الشخصية وأفكارها ورؤيتها للعالَم، فإن تركيز الكاتب على هذه التقنية يجعل الشخصية قانعة بالتفكير في حاضرها، وتأمل ما مضى من حياتها، والتطلع إلى مستقبلها، ولكنها تمتنع عن الفعل، والعمل على تغيير الواقع الذي تعيشه، أو تكون محبطة، عاجزة عن القيام بأي دور.

 أضف إلى ذلك أن التشظي وعدم الانسجام وتفتت كل حبل رابط تجعل مقروئيتها عسيرة، واعتمادها غير مأمون العواقب، إلا لمن يعرف كيف يوازن بين مستويات الخطاب، كما في “الصخب والعنف” لفوكنر. ذلك أن هذه التقنية تطرح مشكلا أساسيا، فلكي يتمكن القارئ من متابعة كل الحكاية، ينبغي إحاطته علما، في هذه الفينة أو تلك، بما يجري؛ غير أن هذا النوع من السرد يحظر على نفسه، من حيث المبدأ، تحديد الحدث على طريقة الرواية الكلاسيكية، لكون القارئ وُضع منذ البداية داخل ذهن الشخصية الرئيسية.

بقي أن نقول إنه يستحيل في الواقع نقل كل ما يدور في ذهن شخص ما بدقة وأمانة، وتصوير تشكل أفكاره في انسيابها أو ترددها أو تفرّعها أو تشوّشها، ولا يقدر على ذلك إلا الأدب الروائي. وتلك ميزة أخرى من ميزاته العديدة.

14