التاشيزم نقطة التقاء أوروبا والولايات المتحدة على أرض الشرق

تجربة بصرية تفكك رموز اللون وتذهب به إلى أقاصي الفلسفة والجماليات.
الأحد 2021/10/03
فن مواز للتجريد التعبيري

لا يمكن إنكار التأثير الأميركي في الحركة الفنية التشكيلية في أوروبا، وخاصة في فرنسا التي شهدت ولادة وازدهار العديد من المدارس الفنية، وكان لالتقاء الفن الأميركي بالفرنسي بداية من انشغالهما بالشرق وحضاراته، منطلقا لمدارس فنية مؤثرة ما تزال إلى اليوم تشهد إقبال العديد من الفنانين والتجديد في ماحاتها التي ما انفكت تتسع في كل مرة مع الذهاب باللون إلى أقاصي الأفكار وتحميل البياض والفراغ جماليات غير مألوفة.

يتوازى الفن في مصطلحاته ويختبر الفنان حضوره البصري في مهد طريقه العابر لمعيقات المصطلح، وينطلق بين جغرافيا المسطحات باحثا عن ذاته ليُكوّن التماس القوي والمتين الذي فتح منافذ التجريب على فضاءات التعبير، خصوصا بين أوروبا والولايات المتحدة، حيث كان التجريب انعكاسا قويا لواقع تسارع وتمادى في تمرّده على القواعد والقوالب الفنية باعتبار التغيرات الجمالية والبصرية التي ميّزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

 وبدا ذلك في فرض الرؤى التجريبية بين التجريد التعبيري الذي ظهر في التجربة التشكيلية الأميركية منذ الأربعينات والتسريع اللوني أو التلطيخ التاشيزم حسب المصطلح (Le tachisme) الذي ظهر في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن الماضي في فرنسا، ليكون نتاجا للتفاعل المتوازي في الفن المؤثر أميركيا على أوروبا والذي كان يتنافس في تكثيف الخبرات وتدعيم التجارب والتحرّر الداخلي من القوالب والتبادل البصري للثقافات المختلفة في العالم، خاصة وأن العديد من التشكيليين الأميركيين كانوا يتنقلون نحو أوروبا والشرق والعديد من نقاد الفن والفنانين الأوروبيين كانوا منبهرين بالولايات المتحدة، وهو ما جعل تجاربهم تترك الأثر الفاعل بينها وبين التجارب الأخرى وبالخصوص التجربة الفنية التشكيلية الفرنسية.

الولايات المتحدة وفرنسا

التناقضات الذهنية بين الكثافة والصدام
التناقضات الذهنية بين الكثافة والصدام

حملت التجربتان الأوروبية والأميركية خصوصية كل رؤية بصمودها العميق أمام كل المتغيرات دون أن تتخلى أي من كلتا التجربتين عن حضورها ودون أن تنفصل عن ذاتيتها، وهنا نذكر المدى العميق والمؤثّر لحضور الفنان التشكيلي الأميركي سام فرانسيس (Sam Francis) في باريس وتأثيره الواضح على الحركة التجريدية الفرنسية في تناولاته البصرية للحقول اللونية التي قادت لتجريب التجريد التعبيري والتجريد الغنائي وخلق أسلوب التاشيزم، خاصة وأن التواصل البصري والمنافسة الحسية للألوان كانت تقع في تماس فني وجمالي بينه وبين الفنان الفرنسي من أصول ألمانية هانس هارتونغ (Hans Hartung).

 يُقدّم هارتونغ باعتباره رائدا من رواد التجريد الغنائي والتاشيزم خاصة بشكل تنوّع أكثر في توافقه التقني والتنفيذي للون، مع تميّزه بالعقلانية البصرية والتواصل العلمي مع اللون والتعامل حسابيا مع المسطّح ما جعل تجربته مختلفة وثرية في حساب الحركة، والقدرة على التعامل الإيمائي بين اللون والحركة، إذ كان سعيه الحقيقي في فنه هو تحقيق التوازن بين العفوية والكمال في صميم جماليته التصويرية.

غير أن التساؤل عن التاشيزم وظهور الحركة يُحيل إلى عدّة تفاعلات تجريبية وبصرية وحركية لم تكتف بالعنصر الواحد بل جمعت الكثير لتكون وفق خصوصياتها الفرنسية واندفاعها الأبعد في توظيف الفعل والخامة والأداء والألوان سواء حسيا أو ذهنيا أو طبيعيا، ويبقى للحضور الأميركي دور بارز في تفكيك جوانب الجرأة المتاحة للأداء والانفعال والتعبير حسب المستويات المختلفة والمتناسقة مع فلسفة كل تجربة وفنان.

في كتابه “فن آخر” (Un Art autre) الذي صدر في سنة 1952 أعاد الناقد الفرنسي ميشال تابييه (Michel Tapié) اعتماد مصطلح “تاشيزم” ليعبّر فيه عن الفن الموازي للتجريد التعبيري الأميركي الذي كان قد انتشر بشكل ملفت مع جاكسون بولوك منذ 1946، خاصة وأن تابييه كان قد عاد من جولة بصرية قادته لاكتشاف عالم الفن في نيويورك وسان فرانسيسكو والحيوية المتفاعلة بينهما في خلق وابتكار التصورات البصرية الجديدة للتجريد، وهو ما دفعه نحو تحديد الخصوصية التجريبية للتاشيزم كتجربة فرنسية ذات تأثرات بصرية تتشابه مع التجريد التعبيري وتتفرد أكثر.

التاشيزم متمرد في الأداء على التكعيبية والتجريد الهندسي لأنه يفرغ ذات العمل من القوالب والأحجام ويتحرر مع الفنان

 وأشار تابييه إلى أن التأثر الفرنسي بالتجربة الأميركية كان واضحا ولكن الاختلاف كان في التكنيك التعبيري باللون حيث كان الأسلوب الفرنسي أكثر غنائية والتداخل بين البقع الملونة لم يحمل القسوة والعنف والتصادم الذي كان في التصورات المختلفة للون والخطوط في التجريد التعبيري، ليعتبر أن المصطلح هو إشارة بصرية معقولة لذلك المدى الحاصل بين تجربتين ومنطقتين، حيث استوعب الفنانون التوليفات وانطلقوا عبرها في تجسيد تلك التناقضات الذهنية بين الكثافة والصدام وهي التي أثبتت تفرّدهم.

اللون والفكرة

لشرح الأسلوب البصري الفني للتاشيزم فإنه يتميّز بكونه متمرّدا في الأداء على التكعيبية والتجريد الهندسي لأنه يفرغ ذات العمل من القوالب والأحجام ويتحرّر مع الفنان في ترك المساحات للون والخط والمسطح بتنفيذ رشرشات الألوان بتلقائية أو البقع التي تحدثها الفرشاة وتمرير التفاعل بينها وبين اللون والقماش بشكل صدامي يفرض للون حرية الحركة العمودية والأفقية، وقد يتم إحداث تلك البقع أحيانا بالأوعية المثقوبة أو سكب الألوان مباشرة والانتصار لحركتها الفردية وتعبيريتها، مع فرض التواصل الحسي بين اللون والفكرة، ورغم أن فناني هذا الأسلوب يدّعون استقلاليتهم وتفرّدهم وبأن فنهم لا يشبه إلا ذاته، لا يمكن لمؤرخي الفن والمطلعين إنكار حركة التواصل الفني الأوروبي – الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية.

ولعل الحديث عن التمازج في أسلوب التاشيزم يحيل بالضرورة إلى تأثير خاص من الفنانين الأميركيين سام فرانسيس وفريد مارتن وجاك هيد باعتبار ما حمله هذا التأثير من تجريب وابتكار، وخاصة تجربة فرانسيس الذي اعتبر تأثيره كبيرا على الأسلوب في فرنسا باعتبار أن تعلقه بالفن لم يكتف بذلك التواصل الطبيعي بل اقترن بالحسي والتعبيري والخيالي والفكري والفلسفي والأيديولوجي والنفسي، وهو ما جعل منه أب التجريب اللوني ومبتكر الحركة الخاصة باللون ولذلك فإن تأثيره لم يكن على الأسلوب فحسب بل على الفنانين الذين خطوا أسماءهم بشكل رمزي في تاريخ الحركة التجريدية التعبيرية.

بصريات شرقية

Thumbnail

 كان الرسام فرانسيس من رواد الجيل الثاني من التعبيرية التجريدية، ويعتبره العديد من النقاد أحد أكثر رسامي القرن الماضي إبداعا في ابتكار حقول التلوين، وهو معروف بفنه التجريدي واسع النطاق، والذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالمساحات اللونية وقدرتها على ابتداع لغة بصرية تسرد مع اللون العواطف المتداخلة بحسب درجات انفعالها.

 حصل فرانسيس على درجة الماجستير في الفنون الجميلة في جامعة كاليفورنيا (1950) ثم انتقل إلى باريس درس على يد الرسام التكعيبي الأسطوري فرناند ليجيه (1881 – 1955)، ما أكسبه روحا منطلقة في التجريب قادته إلى خلق ميزة في لوحاته المبكرة عمّقت الفلسفة البصرية لفن اللاقالب وابتكرت خصوصيات فنية تمثّلت في أسلوب  التاشيزم.

وترك الفنان بصمته في أسلوب التاشيزم وانطلق منها باحثا عن منافذ اللون في اليابان ما عمّق رؤاه ببصريات شرقية فكان مبتكرا للون والخامة والأسلوب، قام بإنتاج الألوان المائية والطباعة الحجرية وبعض الجداريات ليكون أحد أهم  الرسامين التجريديين في أواخر القرن الماضي، فنان نشأ في تقاليد الفن الحديث ولكنه ساهم أيضا في فتح بوابات الفن المعاصر، استخدم كل فلسفات الاستيتيقا الشرقية والغربية لخلق لغته البصرية المتميزة.

التساؤل عن التاشيزم وظهور الحركة يُحيل إلى عدة تفاعلات تجريبية وبصرية وحركية لم تكتف بالعنصر الواحد

ويقول عنه صديقه الفنان والباحث في تاريخ الفن الحديث وزميله في تعميق رؤى التجريد بخصوصياته التعبيرية والغنائية والهندسية وأسلوب التاشيزم فريد مارتن “كانت له الكثير من الحيوية البصرية والتسارع اللوني في أعماله التي تستثيره نحو الأعمق، كما له الكثير من الحضور الذي ساعده على التعلّم أولا ثم التجريب وبالتالي كان له دوره في خلق الميزة الفنية والجمالية لأسلوب التاشيزم التي انتشرت في فرنسا منذ أواخر الأربعينات واستمرت حتى الخمسينات، لذلك يمكن اعتبارها الصدى العابر من الولايات المتحدة والمتأجج في مطلع الخمسينات في فرنسا كأساس بصري جمالي تعمق أكثر في التجريب ووصل أبعد في العمق واللون والفكرة”.

التسارع البصري

إن مارتن وفرانسيس عملا معا كثنائي تشارك الفكرة والتطوير وتنافس على فك رموز اللون وفق منطلقاته الصدامية مع المساحة أولا ومع اللون الآخر بدرجاته المتفاعلة تلقائيا والمنسابة بصريا وهو ما تلاقى في الكثير من التفاصيل الفريدة مع أسلوب التاشيزم، خاصة وأن لهما تعلّقا حسيا عميقا بثقافات الفن الكلاسيكي في أوروبا فنون الشرق وفلسفته الجمالية المتناغمة حسيا مع الرؤى العقلانية، وهو ما برع فيه أيضا التشكيلي جاك هيد، خاصة أنهم أسّسوا لروح بحثية في عمق اللون وفلسفة الحقول اللونية التي نافست حكمتها مدرسة نيويورك وتفاعلت مع الأسلوب التنفيذي أكثر من الأداء، ليكون لها أثرها في التواصل البصري مع الحركة الفرنسية بالخصوص مع تسارع حركة النقد والكتابة والوساطة الفنية في العرض والاقتناء.

ولا يمكن إنكار التسارع البصري الذي أثرت فيه المدرسة الأميركية على تفاصيل الفن خلال الأربعينات وهو ما أثارته الجدارية التي تثبت الأصول الأولى “للتاشيزم” مع الثلاثي الأميركي  فرانسيس، مارتن وهيد حيث يتم للآن الاحتفاظ بأول عمل بصري جداري ثلاثي في هذا الأسلوب بجامعة بيركلي أنجز سنة 1949 ليكون بمثابة دليل تأريخي للأثر الأميركي على الأسلوب وتطويره الأبعد.

Thumbnail
Thumbnail
Thumbnail

* الأعمال المرفقة معروضة في:

Fred Martin Hans

Hofmann Sam

Francis David-teachout

متحف فرحات الفن من أجل الانسانية Farhat Art Museum Collections

 

14