شخصيات غارقة في الألوان تروي فصولا مجهولة من ذاكرة فلسطين

تعامل الفنانين الفلسطينيين مع واقعهم الخاص ومعاناتهم من الاحتلال والقتل والتهجير، تعامل مر بعدة محطات، من الرموز المباشرة إلى صناعة رموز أخرى تفتح آفاق الخيال والتأويل بأساليب مجربة وجديدة كليا، وصولا إلى الوعي بأهمية تقديم قراءات مغايرة عبر الفن لواقع الاحتلال والهوية وغيرها من القضايا، على غرار ما تقدمه الفنانة رغدة أبوزيتون.
في لحظة اندماج مع الذاكرة ترشح في صور الفنانة التشكيلية رغدة أبوزيتون تفاصيل ألوانها، لتعيد تشكيل واقع من ألم لم تعد اللغة قادرة على استيعاب معانيه ومفاهيمه أو مجازاته، أو ربما تقدر لكنها تتسلّح بآليات أخرى لتكون أكثر قربا وتعبيرا وأكثر معاني، فتجربتها تتأتى من وحي أرضها وانتمائها لتجوب الأمكنة وتسرد الحكايات وتستعرض الحياة الفلسطينية بدمعها وابتسامها وبصمودها وانكسارها وبيومياتها العادية وأحقيّتها في الحياة، لتقول نعم يجدر بها الانتماء إلى الحياة على أرضها.
حطّ معرض رغدة أبوزيتون رحاله في أوروبا من إيرلندا نحو أسكتلندا، قدّمت معرضا شكّل حضورها فيه منفذ الجمال الممتد بألوانه، كما عرضت لوحاتها في المتحف الفلسطيني المعاصر بمناسبة افتتاح فرعه الأوروبي في إدنبرة حيث كانت مشاركتها اتصالا حقيقيّ النفاذ برسائل من فلسطين وسلام لأهل فلسطين.
أرواح منسية
رغدة أبوزيتون فنانة تشكيلية فلسطينية من قرية عصيرة الشمالية مقيمة بمدينة نابلس وتخرجت من كلية النجاح للفنون الجميلة، قدّمت عدّة معارض ولها العديد من الأعمال التي حاولت فيها أن تقدّم فلسطين بكل أثر الهوية والانتماء والبساطة والجمال والأمل والحياة كفلسفة بصرية تعكس الإنسان ومدى حفاظه على كل تلك القيم.
تقول أبوزيتون إن عملها “أرواح منسية” تشكّل من “ثلاث لوحات تتكامل وتتصّل وتنفصل، تبكي وتضحك لا حزنا ولا فرحا، كل هذا معا في صمت وحيرة، في دهشة تتصارع، وحدها هي حالة فلسطينية حقيقيّة تظهر فيها مجموعة أمهات يقفن متراصات بينهن عروس. كم سمعت صراخ أمهات ملأ الفضاء. بنتي بعدها عروس. والله بعدني ما رجعت بدلة عرسها.”
في اللوحات تقف إحداهن تحمل على رأسها خطوطا لبيت لم يعد موجودا وطنجرة فارغة. وأخرى بيدها باقة ورد لتضعها على قبر شهيد. وعلى رأس إحداهن مزهرية بقي فيها القليل من الماء ما عاد يصل إلى وردة ذبلت. وسمك غزة الحبيس في قفص عصافير. وحمامة سلام حمراء على كتف عروس منسية. وهذا الجد الذي ما عاد قادرا على الوقوف بزيه الفلسطيني يحمل صحنا أحمر وبضع حبات زيتون وحفيدته الواقفة بشموخ تحمل سمكه باحثة عن يوم جديد وعمر جديد. وأم جالسة تحمل حنون فلسطين لتزين به قبر من رحلوا وفتاة صغيرة تقف خلفها تحمل بيدها لعبة حمراء في زمن ما عاد فيه الأطفال يلعبون. وسمكة متشبثة بالفتاة تبحث معها عن النجاة بعد أن وجدت أن حمامة السلام أصبحت معلقة بواسطة لاصق جروح داخل برواز رمادي على حائط منسي أيضا.
إن الحديث عن عوالم رغدة أبوزيتون التشكيلية يحيل بالضرورة إلى اقتفاء أثر الرمز والأيقونة والعلامة الأولى للوجود الفلسطيني وأثر التعايش والحياة، تساؤلات الموت والحياة والانبعاث من جديد من رحم الموت هي سلسلة تتواصل وتختلف، الأزمنة تتكرّر ويتغيّر الشهداء لكن لقصة واحدة، كما تعبّر عنها في تلك الأجساد خاصة أجساد النساء اللاتي يصلن بطولهن سماء التلاقي مع الأرواح في تماس رؤيوي له معاني الخلود والاستمرار.
التأمل في عمق اللوحات التي تنطلق بشخوصها نحو السماء يعيد باللون اختيار حبكتها السردية بين تفاصيل الأرض والهوية وبين الأحاسيس التي تتفوّق عليها وتتجاوزها، من الفردية إلى الجماعية إلى الجمالية بأناقة تظهر على التلقي الأول للوحة في توازناتها الثقيلة وخفّتها الرصينة التي تكاد تخترق صمتها عبر الحركة.
الحديث عن عوالم أبوزيتون التشكيلية يحيل بالضرورة إلى اقتفاء أثر الرمز والأيقونة والعلامة الأولى للوجود الفلسطيني
تحاول الفنانة في تفاصيلها المرتّبة التي اختارتها أن تعيد ترتيب الواقع بما يليق بجمالياتها الصريحة والمعلنة في شخوصها وصورها ومشاهداتها الحسيّة البالغة والبليغة حتى تحمل المتلقي في رحلة البواطن التي تخزّن المسرود البصري من الذاكرة وتكويناتها وتواصل الأمكنة والأزمنة.
وفي حوار معها قالت أبوزيتون “حاولت تطويع تفاصيلها الشيّقة المؤمنة بالتناسق الطبيعي مع البيئة الفلسطينية الفلاحية وتفاصيل أثوابها بين أشكالها وحليّها وزينتها حملت مع كل امرأة قصة استوحتها من طبيعة فلسطين في اختلافاتها الجغرافية التي يوحّدها لون الأمل الباقي في الإنسان وإنسانية الانتماء.”
إنها تعمل على الامتلاء بالعمق بعيدا عن الوهم الذي يتركه الاحتلال في صور التشويه المرئي بين جدار وأسلاك، بين حصار وموت وإبادة، هي تحاول سرد الأحلام وحراستها من كوابيسها بذاكرة دموية ملطخة في احمرار لا يهدأ منه الحضور الأكمل في الأرض حتى لو كان موتا.
تشكّل الفنانة رؤاها البصرية وترتحل بملامح العابرين في الحزن والحنين كعبور أعمق في التصورات النفسية والحسيّة والحالات والذهول من كل ما يعبر على الجسد قبل الأرض، على الملامح قبل الذاكرة، على الملبس والمعيشي، هي تفاصيل تعمّم فكرتها منها وتتماسك فيها من خلال تركيب اللون داخل العمق الذي تملأ به الفراغ بين كل تفصيل وشخصية عناصرها ثابتة وجمالية واتفاقها على السمو بالألم أجمل نحو سماوات شاهقة بأعناق الراحلين، تسترجع فيها من كل حالة وحركة وطنا من الأحلام الثابتة ومن الرؤى الخفية في الوجود.
أهدي سلامي
تذكر الفنانة في زمن كانت فيه الرسائل الورقية هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الفلسطينيين مع أبنائهم وبناتهم في الغربة، أن الأمهات كنّ يجلسن في حالة انتظار دائم على أمل أن تصل رسالة لتطمئن قلوبهن على من اغترب من عائلاتهن، كانت الرسائل تحمل شرحا مفصلا عن تفاصيل حياة المغتربين، عن العمل، عن الأسرة، عن الأولاد، عن صعوبات الغربة.
وترى أن الرسائل كانت تحمل الاشتياق لكل ما في فلسطين، للأم وحنانها وأكلها، للأب الحنون، للإخوة والأخوات، للبيت، للجيران، للأصدقاء، ويتم السؤال عن الجميع وبالتفصيل وكانت عبارة “أهدي سلامي” موجودة في كل الرسائل، إذ أن إهداء السلام كان من الأمور المفرحة التي تعيد الذاكرة إلى أشيائها وناسها بكل ما يحملون من تفاصيل لا تزال القلوب على الذكرى، حين كان يقال لأي أحد والله ابني أو بنتي بعثت له مكتوبا وتهديك السلام، اليوم غابت الأمهات وغابت معهن الرسائل، ونسي الجميع ما كان يُكتب فيها وبقيت عبارة “أهدي سلامي” هي الأكثر تذكرا.
كلما حملتنا الحروف الملونة إلى التفاصيل وإلى مجاز الانسياب، أوقفتنا العتمة ولا وقت للغة لأن كل الصمت كثافة، هذيان الشخوص في ترتيب أبوزيتون لا يحمل همهمات الحنين ولا دوافع لأثبات الذات في الأرض التي تحمل التفصيل البنيوي الثابت في اللوحة، إنها لغة من لون يفكّك حضوره، يهدي أكثر من سلام ويبحث عن أكثر من روح في هيمنة الصعود المزدحم إلى السماء، فالتفصيل كثافة وزخم بين الصبر والياسمين وشقائق النعمان يُنبت الأمل من ربوة التذكر والترقّب.
حملت رغدة أبوزيتون تجربتها، بعد أن اقتلعت شخوصها من وحدة السعي نحو منافذ النور، بين التصور المبهم للتعلق والحيرة المدهشة من الانبعاث، فهي لم تفارق أرضها ولا هويتها الساكنة في اللون ومنه ولم تتجاوز أبعادها الجمالية والتكوينية لتفعّل حضورها بأنوثة الأرض وخصوبة البقاء واستمرارية السعي نحو الحياة الأجمل والمستحقة.