النشأة الأولى للتجريد المغربي.. أصالة تتنفّس معاصرة

الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية ومحمد المليحي أربعة أسماء تشكيلية مغربية مثّلت ولا تزال رغم رحيلها، مرتكزات للفهم التشكيلي الحديث في المنطقة العربية، أفكارهم قادت إلى نظرة جديدة وأضفت على الفن التجريدي ملامح أخرى ليست كتلك القادمة من الغرب، رغم أنها لا تخفي تأثّرها بالتجارب الغربية الحديثة، بل العديد منها اكتشف في المناطق الباردة وترعرع فيها، إلاّ أنها احتفظت بتكوينها الفني ونشأتها الأولى.
تنوّعت الأفكار والرؤى الفنية عند الرباعي المغربي الراحل الجيلالي الغرباوي وأحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية ومحمد المليحي بحسب تنوّع مصادر إلهامهم ومستوى ثقافتهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية، ولكنها اتكأت في جلها على موروثها ومفرداتها ومناخها ومزاجها وألوانها وخاماتها وأصباغها المحلية، ممّا صنع منها صوتا متفرّدا ولونا مختلفا في فن الرسم الحديث في المغرب والمنطقة العربية كلها.
لم تحدث قطيعة ثقافية في المغرب كما حدث عند بعض البلدان العربية الأخرى، وذلك إثر التحوّلات الكبرى التي غّيرت توجّههم الاقتصادي من مجتمعات ريفية زراعية بسيطة إلى مجتمعات منتجة للنفط بشكل سريع ومفاجئ.
تفرّد نوعي
فقدت هذه المجتمعات الكثير من العادات اليومية التي كان يُعتمد عليها في الواقع المعيش من صناعات تقليدية لعدم لزومها وجدوتها، ولترف الحياة الحديثة عند هذه المجتمعات، فالكثير من الصناع المهرة تركوا هذه الحرف والفنون من صناعة المنسوجات الصوفية والكليم والنحاسيات والفخار والخزف واتجهوا إلى التجارة وسوق رأسمال الحر والاعتماد على التوريد من الخارج بدلا من صناعتها محليا، فأصبحت هناك قطيعة في هذه المجتمعات كان لها الدور السلبي في تدني الذائقة الفنية العامة والخاصة.
انعكس كل ذلك بشكل خاص على المنتج الفني بخلاف المغرب الذي واصل مشوار الإنتاج المحلي في هذه الصناعات التقليدية كمصدر من مصادر الدخل القومي وإِثراء الجانب السياحي للبلد، وكان أكثر تنوّعا وتعدّدا في الجانب الثقافي العربي الأمازيغي والأفريقي، فجات الأزياء التقليدية النسائية والرجالية متنوّعة الأشكال والموديلات، وباتت الصناعات الصوفية ثرية جدا بألوانها وأشكالها وتعدّد استخداماتها.
وشمل هذا التميّز أيضا الصناعات الجلدية التقليدية في معالجتها للألوان ودبغ الجلود بالطرق القديمة التي أضفت خصوصية على المغرب بين بلدان العالم كله، والفنون التشكيلية المنتجة في المغرب أصبحت لها سماتها التي تميّزها بفعل تفرّد موروثها الثقافي والفني.
نشأ في المغرب الجيل الأول من الفنانين وكانت أعمالهم تصنّف من الفن الفطري لعدم دراستهم الفنون في الأكاديميات الفنية الحديثة، ومن بينهم الفنان محمد بن علي الرباطي، مواليد العام 1861، والفنانة الشعيبية طلال، مواليد العام 1929 وغيرهما من هذا الجيل الذي أسّس فكرة قيام حركة تشكيلية مغربية.
بعد ذلك جاء جيل جديد كان قد درس في المدارس والمعاهد الفنية، وهو الجيل الثاني للفن التشكيلي المغربي، والذي كان له الدور الأكبر في ترسيخ فكرة الفن التشكيلي الحديث من بواكير تجارب شابة تعلّمت أغلبها في الغرب وتقلّدت مناصب في التدريس والإدارة بالمغرب في فترات سابقة.
ومن أبرز هذه التجارب تحضر تجربة الجيلاني الغرباوي وأحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية ومحمد المليحي، والتي كان لها الأثر البالغ في تشكيل مفاهيم جديدة خصوصا للفن التجريدي العربي الحديث.
خصوصية مغربية
يؤكّد المؤرخون أن الجيلالي الغرباوي (1930-1971) هو أوّل من رسم اللوحة التجريدية، وكان ذلك في بداية خمسينات القرن الماضي، وتبعه أحمد الشرقاوي (1934-1967) بعد فترة قصيرة، أي قبل تجارب الفنانين العراقيين والمشارقة بشكل عام، لأن جماعة البعد الواحد في بغداد كانت قد تأسّست في بداية السبعينات من القرن الماضي من قبل الفنان العراقي شاكر حسن آل سعيد.
اقترب الفنان الغرباوي كثيرا من الموروث الشعبي المغربي وابتعد إلى أقصى مدى من التوجيهات الأكاديمية التي كانت تروّج لها المدارس الفنية في ذلك الوقت، فبتميّز مفرداته المستعملة في لوحاته أصبحت له خصوصية في خطابه التشكيلي التي جعلته متفرّدا حتى بين زملائه التشكيليين الغربيين في فرنسا.
وكما فعل الغرباوي، استبعد أحمد الشرقاوي الأكاديمية من مشروعه الفني، وكلاهما حفر في عمق الذاكرة التشكيلية المغربية والعربية بحداثة فنية وطزاجة غير مسبوقة في المنطقة كلها، حيث كانت لهما الريادة في الدخول إلى مناطق لم تطأها قدم فنان من المغرب قبلهم بل من البلدان المجاورة أيضا.
تجريدات تعتمد على الأشكال الأولى في المعمار المغربي وزخارفه المتنوّعة في حيطانه وأبوابه والزليج الملوّن أو ما يعرف بـ”البلاط الفسيفسائي”، فنون مستلهمة من الإرث الإسلامي، خصوصا في شمال أفريقيا، وكان المغرب المكان الأكثر إبداعا وتنوّعا وثراء في مثل هذه الفنون، وتجسّدت في البيوت من الداخل والقصور والمساجد بإبداع في تقديمها وأشكالها المبتكرة، فهذا النوع من الفنون يحمل قيم تجريدية قد سبقت تنظيرات بيت موندريان الهندسية وغيره من التجريديين الأوروبيين، وكان للفنانين الروّاد المغاربة ومنهم الشرقاوي دور كبير في تطوير هذه الفنون والإضفاء عليها من الفكر الغربي الذي استوعبه هو ورفاقه الأوائل.
أما فريد بلكاهية (1934-2014) فتميّز الخطاب التشكيلي عنده بامتداد مساحاته الملونة ومفرداته المبتكرة، خاصة تلك التي استلهمت ثيمة الشجرة حسب رؤية معاصرة ومتكئة على الموروث المغربي الغني بالألوان والأشكال، انطلاقا من الزخارف المعمارية، مرورا بتشكيلات الحنة والوشم والكتابة والمدوّنات الشعبية المرسومة وصولا إلى الفسيفساء.
فتجربة الفنان الراحل اتخذت مكانا مرموقا في التشكيل المغربي الحديث لابتكاره أشكاله الخاصة واستعماله المواد وخاماته الأكثر خصوصية كالجلود والأصباغ المصنّعة محليا، ممّا أضفى طابع الأصالة على فنه مع أنفاس معاصرة، وفهم تشكيلي جديد من خلال تقديمها بحلة جديدة وصياغاته لأشكاله المرسومة والتي تتّخذ من خطابات الحداثة الغربية أسلوبا لها.
وتأثّر محمد المليحي الذي ولد في مدينة أصيلة المغربية في العام 1936 بمناخ المدينة النائمة على خد المحيط الأطلسي في بيوتها البيضاء وهي تعانق أفقا أزرق دون سقف، في تجربته أمواج ملوّنة في تكرار لا يُملّ بتعدّد التكوينات المبتكرة وتجاور الألوان في مناخات لونية متعدّدة ما بين المجموعات الشتوية الباردة إلى المتوهّجة في وضح الشمس بدرجات الألوان الملتهبة، تتغيّر حسب فصول الفنان المتعدّدة في لوحاته، كأنها طيات النفس العميقة المتحوّرة والمتبدلة بتبدّل أمزجة الإنسان المعاصر.
أفراحه وآماله وتطلعاته مفتوحة على المعنى لا يمكن تأويلها وردّها إلى أشكالها القريبة، بل هي تستدعي تعدّد القراءات، لأنها رسم لأمواج داخلية استقرت منذ الأزل في علاقة الإنسان بالبحر.
والفنان الراحل في العام 2020، هو أحد مؤسّسي “جماعة الدار البيضاء” مع فريد بلكاهية ومحمد شبعا، وكان مدرّسا في مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء ومصمّما لأغلفة الكتب والعديد من معلقات الملتقيات والمهرجانات الفنية.