في تجربة طه حسين

حتى اليوم، وبعد نصف القرن إلا قليلاً من وفاته، ما تزال عناصر التشويق في حكايات طه حسين ومعاركه تحتفظ بقابليتها للاستعادة وللتأمل من جديد. فقد ظل الرجل، الذي حُرم نعمة البصر، يقاتل بقلمه طوال حياته، لكنه اتبع أسلوباً يضمن له البقاء في ساحة المعارك، وكان يضرب فجأة ثم ينزوي، ويعود بعد ذلك لكي يضرب من جديد، كأنما هو يخوض حرب الضعيف ضد القوي لكي يستنزفه ولا يمكنه مع حسم أمره في معركة واحدة أخيرة!
كان لفيف من الأدباء والمفكرين البريطانيين، الذين استطابوا الفكر الاشتراكي دون أن يدفعهم إلى العنف، قد استلهموا فكرة الاستنزاف من القائد الروماني “فابيوس” الذي تصدي لهانيبال بعد أن أوقع الهزائم المنكرة بالجيش الروماني في معركتين فاصلتين. فلم يكن أمام الرومان إلا اللجوء إلى “فابيوس” الذي وضع خطة يتفادى فيها الاصطدام المباشر، وتعتمد المناورة، وطريقة اضرب واهرب، لإضعاف الخصم القوي العنيد. ومن ذلك الاستلهام، أسسوا “الجمعية الفابية” في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وابتعدوا عن الطرح الماركسي الذي يحض على الصراع الطبقي. وعلى أساس تلك الجمعية، نشأ حزب العمل البريطاني، الذي اعتمد صيغة بريطانية للتوجه الاشتراكي، وتثابر على الترويج للإيمان الطوعي بقيم الحماية الاجتماعية وأفكار الإصلاح التدريجي. وهكذا لم يتوقف طه حسين عن شن الغارات الثقافية في بلاده، وغايته نهضة جديدة تقوم على عقل متحرر من القيود الجامدة. وبدأ ذلك السياق بكتاب “في الشعر الجاهلي” الذي صدر في العام 1926. ففي ذلك الكتاب اندفع طه حسين بجرأة إلى استخدام المنهج العقلي في الدراسة وإن كان قد أوقع نفسه في خطأ أو في تعجل خاطئ عندما أوحى في بعض الفقرات بآراء يبدو فيها مساس بالدين ومخالفة القرآن الكريم بينما هو شيخ أزهري. وجاءت المفارقة عندما خلص النائب العام الذي حقق معه في العام 1927 وأظهر هذا الأخير استنارة لا يملك أن يتحلى بها الأصوليون الذين ما زالوا يهاجمون الأديب الكبير حتى يومنا هذا. فقد أشارت خلاصة التحقيق إلى أن المؤلف لم يكن غرضه مجرد الطعن في الدين، لأن العبارات التي أوردها وفيها مظنة مساس، إنما جاءت في سبيل البحث العلمي “مع اعتقاده أن البحث يقتضيها، وعندئذٍ يكون القصد الجنائي غير متوفر، ولذلك تُحفظ الأوراق إدارياً”!
كان الفضل في ذلك الحكم يعود إلى رئيس نيابة مصر آنذاك ويُدعى محمد نور. وبعد الحكم عاد طه حسين إلى أسلوب “فابيوس” فلم يعاند، وإنما تراجع قليلاً وحذف الصفحات التي أثارت المشكلة وأصدر طبعة جديدة للكتاب بالعنوان نفسه، بعد أن نجح في إلقاء حجر في المياه الراكدة، كان له أثره في إعمال الفكر واستخدام المناهج العلمية الحديثة!
كان الأديب يتحرى “الطريقة الفابية” في مسار البحث عن وسائل جديدة تجعل الحياة أفضل، دون أن يضرب رأسه في الجدار أو ينكر معطيات الأمر الواقع أو يدعو إلى عنف. وفي زمنه أسقط حزب العمال “الفابي” تشرتشل في العام 1945 غداة انتصاره في الحرب العالمية الثانية، فذهب العماليون إلى بناء “دولة الرعاية” ونظام التأمين الاجتماعي الذي يغطي احتياجات المرضى للطبابة والشيوخ للرعاية والأسر لأكواب الحليب الكافية التي توضع عند أبواب بيوتها.
على طريق الأفكار التي تنبذ العنف الأهلي، استفادت الشعوب، وهذا ما كان يريده المستنيرون الذين أحبطهم المتخلفون.