الأغنية الشعبية ابنة الفلسفة

الحكمة والدهشة والتساؤل سمات الفلسفة التي تأخذها الأغاني.
الأحد 2021/09/19
الأغاني فكر قبل المشاعر (لوحة للفنان تحسين الزيدي)

ترتبط الفلسفة بالأغاني كما ترتبط بالشعر والرواية والفيلم والكثير من مظاهر الحياة، الفنية وغير الفنية، غير أن الملاحظ أن الفلسفة ترتبط، في الغالب، بالكوميديا أكثر من التراجيديا، وبالشر أكثر من الخير، وبالشعبي أكثر من العاطفي والوطني. ربما لأن القسمة الثنائية التي ذكرناها تفصل بين ما يستدعي التفكير وما يستدعي العاطفة، وأن الفصل ليس حادا، والأمثلة ليست منضبطة، وإنما نوردها على سبيل التقريب. من هذا المنطلق، اخترنا التحدث عن علاقة الفلسفة بالأغنية الشعبية تحديدا من بين الأنواع الأخرى من الأغاني، ومن نفس المنطلق لن نقتصر على الأغاني الشعبية فقط، ولكننا سوف نستعين بالأغاني العاطفية كلما دعت الحاجة إلى توصيل فكرة أو تأكيد أخرى.

في الحقيقة إن تناولنا للأغنية الشعبية إنما يأتي في سياق بحثنا عما هو فلسفي في الحياة مقابل بحثنا، في مقالات أخرى، عما هو حياتي في الفلسفة. وبهذا الاعتبار فإننا سنحاول التوقف عند بعض الأغاني الفلسفية الصريحة، وهي قليلة، كما سنتوقف عند البعض الآخر من الأغاني التي قد لا تكون فلسفية بالمعنى الدقيق، لكنها تنطوي على معان أو أبعاد فلسفية، وهي كثيرة.

وفي كل الأحوال، فإننا نهدف إلى اكتشاف سبل جديدة للتذوق تساعد المستمع على تحقيق فهم أكثر ومتعة أكبر من جراء استماعه للأغاني، خاصة أن الغناء يُعدّ من أكثر الفنون شعبية وانتشارا بين الناس.

 ولكي نضع أيدينا على الأبعاد الفلسفية في الأغنية، فينبغي ابتداءً أن نفهم ما تعنيه كلمة “فلسفة”. الفلسفة في الحقيقة، ودون الدخول في تعقيدات اصطلاحية، لها عدة تعريفات يمكن من خلال تبسيطها تحديد مجموعة من العلامات التي تجعل المستمع، غير المتخصص، يستطيع أن يدلف إلى العالم الفكري للأغنية، كما يمكنه بعد ذلك، ومن خلال المران، أن يميز بين ما هو فلسفي وما هو غير فلسفي في الأغنية، وأن يمتلك الأداة النظرية التي تمكّنه من مواجهة تيار الإسفاف الذي تعيشه الأغنية هذه الأيام.

وبهذا المعنى، يمكننا أن نقول إذا كانت الفلسفة، وفقا لتعريفاتها، هي محبة الحكمة، هي العلم بالكلي، هي البحث عن العلل البعيدة، هي الدهشة، هي فن التساؤل، فيتحتم علينا أن نبحث في الأغنية عن واحد، أو أكثر، من هذه العناصر: الحكمة، الرؤية الشمولية، القضايا الكبرى، الدهشة، التساؤل.

الحكمة والأصالة

الأغاني تعبير مباشر وعميق عن الحياة والإنسان، والفلسفة، خلافا لما هو شائع، لا تنفصل عن هموم الإنسان وحياته

الأغاني الشعبية، لأنها تعتمد كثيرا على الأمثال والمأثورات الشعبية، فهي تزخر بالكثير من الحكم خاصة في فن الموال، ويتبدى ذلك بوضوح في أغاني محمد العزبي ومحمد طه. فيقول العزبي في واحد من مواويله “أيام بنشرب عسل وأيام بنشرب خل. وأيام ننام على الفراش وأيام ننام في الطل. وأيام بتحكم على الأصيل ينزل”. وهي كلمات تعبّر عن تأمل الشاعر في أحوال الدنيا وتقلبات الزمن، خاصة عندما يتعلق الأمر بالأصيل الذي جارت عليه الدنيا وتعرّض للمذلة بعد أن كان يحيا في عزة وكرامة. وتأتي الحكمة في نهاية الموال على لسان حكيم يلجأ إليه الشاعر، فيقول “أنا رحت لشيخ عالم في الهموم. رمى الكتاب من يمينه والتفت قال لي من عاشر الندل بعد الغندرة ينزل”.

وهي حكمة نظرية أخذها الشاعر من عالم نقلها من الكتب، تفسر المواقف التي تبدو متناقضة في عين الشاعر وتكسبه فهما أعمق للأمور بحيث تكون بمثابة الدرس لما هو آت، غير أن الحكمة العملية التي تضع مبادئ أخلاقية محددة للسلوك تأتي، غالبا، في مواويل محمد طه الذي يغني “أبويا نصحني وقال لي امشي على قدك. وفصل التوب يكون مسبوك على قدك. وإن شيّلوك حمل شيل الحمل على قدك”.

ويُلاحظ أن الحكمة تأتي، غالبا، من شخص آخر يتخيله الشاعر، يملك المعرفة إذا كان عالما كما في موال العزبي، ويملك الخبرة إذا كان أبا كما في موال محمد طه. وفيما يبدو، فإنها حيلة فنية يلجأ إليها الشاعر للفت انتباه المستمعين من ناحية ولتحقيق شيء من المصداقية لكلماته من ناحية أخرى. كما أن مفهوم الحكمة نفسه ينطوي على وجود حكيم ينقل علمه وخبرته إلى الآخرين.

وإذا أردنا أن نبحث عن مفهوم فلسفي يميز حكمة الموال الشعبي، فسنجد أنه “الأصالة”. والحقيقة أن الشاعر الشعبي لا يستخدم هذا المفهوم بالمعنى الأكاديمي المعاصر، لكن بالمعنى الفلسفي القديم الذي يدل على “الجوهر”، غير أن الجوهر هنا يتعلق بالإنسان لا بالأشياء، بحيث ينتقل في الموال الشعبي من دائرة العلم إلى دائرة الأخلاق، وليجد تجسيدا له في الحياة الاجتماعية والسلوك الفردي، لذلك يستخدم شعراء المواويل تعبير “الأصيل” كثيرا لأنه يضع المفهوم في سياق إنساني حيّ. ويأتي الأصيل عند العزبي في مقابل “النذل” أو “الخسيس”، بينما يأتي عند محمد طه بوصفه هدفا وغاية تستوجب البحث عنها، بل إنها صارت مبدأ وشعارا يردده الناس، وتعبّر عنه الجملة القصيرة “على الأصل دوّر”.

ولطه تنويعات كثيرة على هذا المبدأ، منها “يا اللي غويت النسب سيبك من الفدادين. أوعى تقول على الغنية تورثك فدادين.. يا ترى مين يورثك يا وارث الفدادين؟ حلوه وفقيره ولا وحشه ولها فدادين”.

ولا تخلو الأغاني الحديثة من الحكمة، بوجهيها العملي والنظري، فنجد في أغنية بهاء سلطان “راعي ضميرك” كلا النوعين، فيقول تعبيرا عن الحكمة العملية في النصف الأول من الأغنية “راعي ضميرك وأنت تلاقي أكتر من اللي بتحلم بيه.. متبصش للي في إيد غيرك ولا تستكتر نعمه عليه.. ربنا بيقسّم أرزاقه ربنا خلق الناس درجات.. إياك تتعرض لقضائه إرضى بحكمه وسلم ليه”. ويقول تعبيرا عن الحكمة النظرية “كنز المال يتعوض لكن كنز الستر ميتعوضش.. ممكن تبقى في قصرك ساكن والفرحة مبتقربلكش.. كلنا في الأصل ولاد تسعة بس الرك على التفكير.. ربنا عمره ما يوم اتخلّى عن واحد بيحبه بجد.. ربنا فاتح بابه يوماتي.. مش بس الجمعة والحد”.

ويُلاحظ أن الأغنية الحديثة مازالت محتفظة بمفهوم الأصالة، الذي كان سائدا في الأغاني القديمة، غير أن الشعراء القدامى كانوا يستخدمونه لتمييز الأصيل من الخسيس كما في “على الأصل دوّر”، وهي نزعة لا تخلو من عنصرية مضمرة ومغلفة بروح أخلاقية، في حين استخدمها شاعر “راعي ضميرك” للتأكيد على مفهوم المساواة بين الناس في المقطع الذي يقول “كلنا في الأصل ولاد تسعة”. وفي أغنية أخرى لبهاء سلطان “محدش يقول” نجد نفس التأكيد على المساواة عندما يغني “محدش يقول أنا بعت دول وخاصمت دول.. أو ضد دول.. عشان مش أصول نعيش بينا بعد ونرمي على بعض الحمول.. مين فينا مبيغلطش أو مفهوش عيوب”. فتعبير “الأصول” يأتي هنا كمعيار أخلاقي يقف ضد العداوة والكراهية والفرقة بين الناس.

لكل أغنية فكرة (لوحة للفنانة زينب جبوري)
لكل أغنية فكرة (لوحة للفنانة زينب جبوري)

الرؤية الشمولية في الأغاني الشعبية تتجاوز علاقة الإنسان بالإنسان في تجربة خاصة ومحددة، لتمتد إلى علاقة الإنسان بالعالم وبالحياة وبالوجود. وهذا النوع من التجارب الإنسانية عندما يتم التعبير عنه في أغنية، فإن الشاعر غالبا ما يستخدم كلمات ذات معان كلية من قبيل “الزمن”، “الحياة”، “الدنيا”، “النصيب”، “الموت”. ومن أبرز الأغنيات التي يمكن أن نرى فيها هذا الموقف الوجودي أغنية مدحت صالح “كوكب تاني”، التي كتب كلماتها مدحت الجمال، وفيها يقول “رافضك يا زماني يا أواني يا مكاني، أنا عايز أعيش في كوكب تاني.. فيه عالم تاني، فيه لسة أماني، فيه الإنسان لسه إنسان عايش للتّاني”.

وواضح أن الشاعر هنا يشعر بالاغتراب تجاه العالم الذي يعيش فيه. وهو شعور لا يرتبط بمكان معين، وإنما بالكوكب كله، حتى أنه يتطلع إلى الفرار من العالم برمته والالتجاء إلى كوكب آخر يتوقع أن يعثر فيه على القيم الإنسانية المفقودة في عالمه الأناني.

والشعور بالاغتراب تجربة وجودية تعبّر، في العموم، عن شعور الإنسان بالانفصال عن العالم المحيط به لعدم قدرته على التواصل مع الناس والمجتمع الذي يعيش فيه، غير أن الشاعر هنا يشعر بنوع من الاغتراب الداخلي، اغتراب ناجم عن انفصاله عن نفسه وفقدانه للهوية، فيقول “في سد منيع عالي وفظيع، بيني وبين نفسي، بين روحي ورسمي، بين يومي وأمسي”.

ويعبّر حسن الأسمر عن تجربة مشابهة في أغنية “توهان”. فالتوهان شكل من أشكال الاغتراب والانفصال عن العالم، في المفهوم الشعبي، والضياع في العالم يأتي من ضبابية الرؤية، وفي هذا المعنى يقول الشاعر “توهان، توهان، توهان.. عالم مليان دخان.. وقلوبنا يا خلق حزينة من القسوة تدوب دوبان”.

والحقيقة أن المعاناة التي يلقاها الشاعر أو الإنسان عموما في هذا الزمن إنما تأتي من كون الدنيا غير أمينة وغير رحيمة بالناس، وأن الزمن في هذه الدنيا لديه من القسوة ومن الجفاء ما يجعله غير قادر على الشعور بمعاناة البشر، ويمكننا أن نلمس ذلك في هذه الكلمات المعبّرة “تايهين والدنيا بتلعب بالخلق وكل الناس.. تايهين وقلوبها بتتعب وزمانها ما هوش حساس”.

وخلافا لشاعر “كوكب تاني”، لا يبحث شاعر “توهان” عن كوكب ثان يفر إليه، ولا يرغب في إقصاء هذا العالم بحثا عن عالم أفضل، لكنه يسعى إلى نوع من التصالح، فيطلب من الدنيا أن ترخي قبضتها عنه وتمنحه شيئا من الفرح بعد طول حزن، وقدرا من الأمل بعد أن خيم اليأس، فيختم أغنيته قائلا “عايزينك مرة تغني ونلاقي البال متهني.. ونقول للفرحة استني.. وتجينا على العنوان”.

وفي علاقة الإنسان بالزمن تكمن التجربة الأكبر مع الوجود، لأنها تجربة فردية داخلية، يقف فيها الإنسان أمام نفسه، محاولا رصد موقعه على خارطة الحياة. وهي لحظة نفسية تأملية، أكثر من كونها لحظة تفكير حسابية، يستعين فيها الإنسان بالحاضر والذكريات حتى يمكنه استيعاب حجم التغير الذي وقع عليه وعلى العالم من حوله.

وفي هذا السياق، تأتي أغنية عبدالباسط حمودة، للشاعر أمل الطائر “أنا مش عارفني” باعتبارها التعبير الأبرز لهذه الفكرة، حيث يقول في مطلع الأغنية “أنا مش عارفني.. أنا تهت مني.. أنا مش أنا.. لا دي ملامحي.. ولا شكلي شكلي.. ولا ده أنا”.

ويمكننا أن نلحظ ذلك في أغنية وليد توفيق happy birthday to you المعروفة بـ”انزل يا جميل في الساحة”، والتي كتب كلماتها عبدالرحيم منصور. فبالرغم من أن الأغنية عاطفية ومليئة بالمعاني الرومانسية الرقيقة، المعبرة عن الفرح والإقبال على الحياة، خاصة في مطلعها الذي يقول “انزل يا جميل في الساحة.. واتمختر كده بالراحة.. أنا أد عينيك مع إني نظرة عينيك دبّاحة”، إلا أن الشاعر يأبى إلا أن يضمّن الأغنية بعدا فلسفيا تأمليا، ينطوي على فهم واع للحياة وأساليبها غير العادلة في معادلة الأخذ والعطاء. فالزمن يمر سريعا، دون أن يشعر به الإنسان، والمحصلة النهائية شعور عميق بالغبن من ناحية، ووحدة لا تنتهي من ناحية أخرى، فيقول الشاعر “يا وعدي على الأيام دي.. من غير ما نحس تعدي.. تاخد أكتر ما بتدي.. وأنا ويا الأيام وحدي”.

وتنقلنا هذه الأغنية إلى ملمح آخر من الملامح الفلسفية التي تزخر بها الأغاني الشعبية، وهو القضايا الكبرى أو المواقف الحدية مثل الميلاد والموت.

القضايا الكبرى

Thumbnail

الملاحظ أن الأغاني الشعبية لم تول اهتماما كافيا بلحظتي الميلاد والموت قدر اهتمامها بلحظات الحياة ومفارقتها العجيبة التي تقع ما بين الميلاد والموت. وتأتي الأغاني العاطفية لتسدّ هذا الفراغ، وتقدم، ببراعة شديدة، تجارب رومانسية مؤلمة مضفورة بلحظات ميلاد فارقة. وهي لحظات يتجاوز فيها الشاعر المعنى الإنساني الفردي لفكرة الميلاد، لتصير الأغنية تعبيرا عن ميلاد الحب أو ميلاد الجرح، ففي الأولى يغني عبدالحليم، من كلمات حسين السيد، “عقبالك يوم ميلادك لما تنول اللي شغل بالك يا قلبي”، وفي الأخيرة يغنّي هاني شاكر، من كلمات منصور الشادي “عدت سنة.. والليلة هاطفي شمعة الجرح القريب.. جرحي أنا”.

وبالرغم من أننا إزاء صورة أدبية خالصة ربما تبعد عن الفلسفة بالمعنى الذي ذكرناه، إلا أن المقطع التالي يحمل قدرا كبيرا من التفلسف عندما يستحضر النصيب والقدر ليفسر بهما سر ارتباطه بالحبيب بالرغم من الجرح الذي سببه له، فيقول “لا الشوق يا قلبي بأمرنا.. ولا كان بإيدي أختار نصيبي.. يبقى خلاص مكتوب لنا رغم البعاد يفضل حبيبي”.

وتصل المعاناة إلى ذروتها في قصيدة كامل الشناوي “عدت يا يوم مولدي” التي غناها فريد الأطرش.

وفيها لا يكتفى الشاعر باجترار الذكريات المؤلمة، أو تقديم تفسير ميتافيزيقي قدري لما ألمّ به من معاناة وما ينتظره في المستقبل من استمرار لهذه المعاناة، لكنه يحرص على تسجيل اعتراضه وتمرده على الحاضر القاسي الذي لا يرحم، فيعلن رفضه للحياة برمتها، راغبا في محو لحظة الميلاد باعتبارها لحظة تأسيسية للذات من ناحية، وللمصير المظلم الذي كان ينتظرها من ناحية أخرى، فيقول “ليت يا يوم مولدي.. كنت يوما بلا غد، ليت أني من الأزل.. لم أعش هذه الحياة، عشت فيها ولم أزل.. جاهلا أنها حياة، ليت أني من الأزل.. كنت روحا ولم أزل”. فالشاعر هنا لا يرفض العيش في الحياة فحسب، لكنه يتمنى لو كان قد ظل في عالم الروح السابق على الحياة. وكأن الحياة لا تملك حلولا لمعاناتها، وكأن العيش فيها، رغم مرارتها، لن يعني سوى المزيد من الشقاء.

وكما تكمن حكمة الحياة في واقعة الميلاد، تكمن أيضا وبنحو أكثر، في واقعة الموت. فكثيرا ما يتوقف شعراء العامية أمام حقيقة الموت الصادمة، كي يستخلصوا منها الحكمة من خلال رؤية كلية مفعمة بروح التفلسف، وكأن الحياة كانت تعمد إلى أن تسدل ستارا سميكا على حقيقتها الواضحة، بينما يأتي الموت ليرفع هذا الستار ويلقي بضوء مبهر وكاشف عن الحقائق التي ظلت خافية مدى عمر الإنسان، فإذا كانت الحياة مسرحا كبيرا والميلاد يمثل رفع الستار للمرة الأولى ليكشف عن بداية الفعل الدرامي، فإن الموت لا يأتي كنهاية لأحداث الرواية، ولكن كلحظة كاشفة تمثل رفع الستار الذي يجيء بعد نهاية الدراما، حيث يكشف الممثلون عن شخصياتهم الحقيقية، ويصطفون لتحية الجمهور.

وبهذا المعنى، يمكن أن نفهم أغنية طارق الشيخ “الكل راح” عندما يعبّر الشاعر عن عدالة الموت التي لا تميز بين البشر، سواء القوي أو الضعيف، الظالم أو المظلوم، فيغني “فيهم اللي كان فاكر هيعيش طول الحياة.. فيهم اللي كان قادر وبيظلم خلق الله.. فيهم اللي عاش مغلوب على أمره يا ولداه.. الكل راح ومحدش خد حاجة معاه”.

وهي حكمة تذكّرنا برائعة حسين السيد “إلهي ما أعظمك” عندما غنت نجاة الصغيرة “على خدود الحجر ساب الزمن تجاعيد.. تحكي لدنيا البشر قصة ملوك وعبيد.. الكل راح واندثر واتساوى في المواعيد.. وساب في أقصى السور آيات لها تمجيد”. فالإنسان يرحل عن الدنيا، لكن تظل الحكمة باقية على مر الأجيال.

الدهشة والتساؤل

Thumbnail

 الدهشة في الأغنية الشعبية تختلف عنها في العلم والفلسفة، فدهشة العلم تؤدي إلى اكتشاف قانون علمي مثل قانون الجاذبية أو قانون الطفو، ودهشة الفيلسوف تؤدي إلى التوصل إلى حكمة ما من قبيل “اعرف نفسك” أو “تكلم حتى أراك”. أما دهشة شاعر الأغنية الشعبية فتأتي تالية على مواقف الحياة المتناقضة، وهي تتخذ صيغة التعجب، وهو تقليد موروث في الأدب الشعبي استفاد منه صلاح جاهين في رباعياته التي كانت تنتهي بكلمة “عجبي” تعبيرا عن التناقض الواضح الذي كانت تكشف عنه الرباعيات.

ويبرز التعبير بوضوح شديد في أغنية المهرجانات “عايم في بحر الغدر” للثنائي أحمد عزت وعلي سمارة، ومن تأليف تيفا العالمي، التي تقول بعض كلماتها “عجبي عليك يا عجب.. على إيه بستعجب.. دنيا وفيها العجب هو اللي مستعجب”. وبعيدا عن التلاعب بالألفاظ الذي يرمي به الشاعر إلى المبالغة في تجسيد غرابة الدنيا التي يتعجب فيها العجب نفسه، فإن مطلع الأغنية يفسر لنا العجب من خلال إبراز التناقض الواضح في مصائر البشر التي لا تتناسب مع معادنهم. ومعادن الناس في تراث الأغنية الشعبية لا تنقسم إلى نفيس ورخيص، لكن إلى أصيل وخسيس، فنسمع هذا المقطع “عايم في بحر الغدر.. شط الندالة مليان.. بقلوب ماليها الشر والبر ما له أمان.. نجي الخسيس منه أما الأصيل غرقان”.

وتغني وردة الجزائرية مقطعا مميزا، من أغنية “اسمعوني” للشاعر سيد مرسي، يكشف عن العجب من الأمور المتناقضة في الحياة، بالرغم من أن الأغنية عاطفية بامتياز، فنسمع “غريبة ومش غريبة.. دنيا وفيها العجايب. بتريّح اللي ظلموا. وبتتعب الحبايب”.

ويقدم عماد عبدالحليم صورة أخرى من صور العجب عندما يغني لعبدالوهاب محمد “عجيب الحب جدا وأكتر من عجيب.. هو بيختارنا واحنا للأمر بنستجيب.. واللي ما يعرفش يقولك أنا مختار الحبيب”، والعجب هنا لا يتعلق بموقف الإنسان، لكن من قدرة خاصة في الحب تجعله قادرا على التحكم في مصير المحبين، والمقطع برمته يعكس فلسفة “القسمة والنصيب” التي تقرّب بين الناس دون أن يشعروا بالدور القدري الذي يؤلف بين القلوب.

ويعود مرسي جميل عزيز في أغنية أخرى ذات أبعاد فلسفية عديدة، ليكشف بنحو واقعي مستمد من التجارب الإنسانية شديدة العمق، عن التناقض الصارخ الذي يؤدي إلى العجب في أغنية “زمان وكان يا ما كان” التي يغني فيها عبدالمنعم مدبولي هذا المقطع المعبّر جدا عن معنى الدهشة “آه يا زمان العبر.. سوق الحلاوة جبر.. احنا اللي كانوا الحبايب بيسافروا بينا القمر.. بقينا أنتيكة.. دقي يا مزيكا”.. وتتبدى عبقرية الأغنية في أن الشاعر لم يستخدم كلمة “العجب” وإنما انتزعها من الموقف المعيش انتزاعا.

يعد التساؤل واحدا من أهم الملامح الفلسفية التي تميز الأغنية بعامة، والأغنية الشعبية بنحو خاص، غير أن العنصر المهم الذي يجعل التساؤل فلسفيا هو أن يكون عامّا بحيث لا يتعلق بتجربة فردية محددة. فعندما يتساءل محمد رشدي “ميتى أشوفك يا غايب عن عيني؟” فهو يتساءل عن الحبيب ويعبّر عن تجربته الخاصة في الفراق، وهنا لا يعد التساؤل فلسفيا.

ونفس الشيء يمكن أن يقال عن أسئلة عاطفية من قبيل “بتلوموني ليه؟” و”ليه يا قلبي ليه؟”، لكن عندما تغني ماجدة الرومي لصلاح جاهين “وإيه العمل في الوقت ده يا صديق؟ غير أننا عند افتراق الطريق.. نبص قدامنا.. على شمس أحلامنا.. نلقاها بتشق السحاب الغميق”. فالسؤال يبدو هنا فلسفيا بالرغم من الطابع الفردي أو الشخصي للتجربة، لأن المجاز الشعري الذي قدمه جاهين حوّل التجربة الفردية إلى رؤية عامة، وجعل من التعبير العاطفي تساؤلا فلسفيا عميقا حول الحياة والمصير.

ويمكننا أن نعثر على نفس المجاز في أغنية “أيّ دمعة حزن لا” عندما يتساءل عبدالحليم حافظ “قلبي دق.. دق.. قلت مين على البيبان دق؟”، فالتجربة وجدانية والتساؤل عاطفي، لكن المجاز الشعري الذي يجعل من الطارق مفهوما عاما ذا دلالة وهو الزمن، يحيل التجربة كلها إلى موقف فلسفي يتعلق بالعمر والحياة والمصير عندما يقول “قالي افتح ده الزمان.. قلت له يا قلبي لأ.. جاي ليه يا زمن.. بعد إيه يا زمن.. من كام سنة.. قلبي وأنا عايشين هنا.. من كام سنة؟”.

ولا يمكننا أن نتجاوز أغنية “لست أدري” المأخوذة عن قصيدة “الطلاسم” لإيليا أبوماضي التي تعبر عن تجربة فردية. فهي أيقونة للأغاني ذات الطابع الفلسفي، ونحن نستدعيها هنا، بالرغم من كونها فصحى وليست عامية، لأنها تحمل أسئلة فلسفية كثيرة وعميقة تم توظيفها في فيلمين لعبدالوهاب (الذي لحنها وغناها في فيلم رصاصة في القلب) وعبد الحليم (الذي غناها في فيلم الخطايا)، غير أنها كانت أكثر تعبيرا عن أحداث فيلم “الخطايا”، لأنه غناها في لحظة وجودية شعر فيها “حسين” بالضياع باعتباره ابنا لقيطا مجهول النسب، فيغني “جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.. ولقد أبصرت أمامي طريقا فمشيت.. وسأبقى سائرا إن شئت هذا أم أبيت.. كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي؟ لست أدري”.

ويستمر في التساؤل عن فرحة الطفولة وأحلام الشباب التي ولت، حتى ينتهي به المطاف إلى محطة عدمية تسلب حياته كلها أيّ معنى عدا كونه يقف فجأة وجها لوجه أمام المجهول، فيتساءل “أين ضحكي وبكائي وأنا طفل صغير؟ أين جهلي ومراحي وأنا غض غرير؟ أين أحلامي وكانت كيفما سرت تسير؟ كلها ضاعت ولكن كيف ضاعت؟ لست أدري”. وتصل التساؤلات إلى ذروة التفلسف عندما تتحول الأسئلة الوجودية إلى أسئلة معرفية ذات طابع صوفي تتّحد فيها الذات المتطلعة إلى المعرفة بموضوع المعرفة، فيغني “لي ذات غير أني لست أدري ما هي.. فمتى تعرف ذاتي كونها ذاتي؟ لست أدري”.

ويُلاحظ أن أداة الاستفهام “ليه” هي الأكثر استخداما في الأغنية الشعبية، ما يؤكد الطابع الفلسفي لهذه التساؤلات، فالفلسفة، كما هو معروف، تحاول الإجابة عن التساؤل بـ”لماذا” لأنها تبحث عن العلة، خلافا للعلم الذي يبحث في التساؤل بـ”كيف” لأنه يبحث في الكيفية أو الطريقة التي تتحقق بها الظاهرة محل البحث.

وبالرغم من أن التساؤل بـ”ليه” يأتي غالبا في سياقات عاطفية واجتماعية، غير أن ربطه بمفاهيم كلية من قبيل الزمن والحياة والدنيا من شأنه أن يجعل التساؤل فلسفيا. فيغني خالد عجاج، من كلمات مصطفى كامل، “ليه يا دنيا الواحد بيقرّب من ناس بيعاه؟ ليه يا دنيا الواحد يتغرّب عن ناس شرياه؟”. ويغني مصطفى كامل من كلماته “ليه كل ما أهرب من حصار الوهم وأرفض انكساري ويأسي وأطلع للنهار.. وأفرح بضيّ الشمس ليه بتغيمي؟ ليه يا دنيا ليه.. ليه ساكته ليه؟ اتكلمي”.

وأخيرا يمكننا أن نقول إن علاقة الفلسفة بالأغنية بعامة، والأغنية الشعبية بنحو خاص، إنما هي علاقة وطيدة جدا، لأن الأغاني تعبير مباشر وعميق عن الحياة والإنسان، والفلسفة، خلافا لما هو شائع، لا تنفصل عن هموم الإنسان وحياته، خاصة اليومي منها الذي يعكس تطورا لحظيا في علاقاته بالبشر والعالم دون أن يدرك ذلك. وما أوردناه هنا من أغنيات إنما هو محض أمثلة ومقاطع قليلة ضمن تراث ضخم من الأغاني والمواويل، يحتاج إلى دراسة موسّعة تتجاوز هذا المقال القصير.

ينشر بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية اللندنية

10