الناقدة التشكيلية كوثر دمق: التوليف فعل تشكيلي يقوم على مبدأ التضافر

فنانون عرب يخلقون عبر التوليف والتضافر أعمالا معاصرة.
الاثنين 2021/08/30
التوليف والترابط وسيلة الفنان العربي

يتوجه الكثير من الفنانين العرب اليوم إلى محاولة التوليف والجمع بين مختلف الأنماط الفنية، فنشأت في هذا السياق العديد من المنجزات التشكيلية التي تأسست وانبنت على فكرة التداخل والتوليف بين التراث العربي الإسلامي والفن الحديث وأسسه والفن المعاصر، الذي احتوى أشكالا تعبيرية وتقنية في الخط والعلامات والأشكال، وهي التي برزت بصورة واضحة في العمارة والزخرفة والرقش والخط، وبين ما يحتويه هذا العصر من آليات ووسائل تقنية وتوجهات جديدة سمحت بتذويب الفواصل بين تصنيفات الفنون.

هذه الرؤية تتمحور في كتاب الناقدة التشكيلية التونسية كوثر دمق “التوليف بالتضافر.. بناء في جسد المادة من خلال تجارب فنية عربية معاصرة”، حيث تحلل وتسائل نقديا بعض التجارب الفنية البصرية العربية المعاصرة التي لا تخفي رغم تقاربها اختلافا على مستوى التوليف بالتضافر بوصف التضافر تشكيليا وجماليا ترتكز عليه.

المادة والأثر

تعرض الباحثة في كتابها متنا متنوعا من التجارب التشكيلية لمجموعة من الفنانين من بينهم التونسيون سمير التركي ولطفي الأرناؤوط ونجا المهداوي وفدوى دقدوق ونورالدين الهاني، ومن مصر عمر النجدي، ومن فلسطين كمال بلاطة، مع الإشارة إلى المنجزات التشكيلية التي تناولتها بالدرس والتحليل وتنتمي إلى فترات زمنية مختلفة.

ولا تمثل المنجزات الفنية المتناولة مسار هؤلاء الفنانين فحسب، بل تعكس جزءا من تجاربهم الفنية التي تتماشى وتتفاعل مع موضوع الدراسة في مختلف جوانبه المفاهيمية التي تتوقف عندها وذلك بالرجوع إلى المستند البصري لكل فنان، والذي يرتبط بالمفاهيم الأساسية في التوليف، التناظم، التشابك، التراكب الشبكي، الخط، التقاطع، النسج، الضفيرة، والفتل، فهي مفاهيم أساسية يتأسس عليها موضوع الدراسة باعتبارها تنبثق من المفاهيم الرئيسية والتي يتم تحديدها حسب ما يقتضيه منهج البحث من تحليل وقراءة تأويلية للمنجزات التشكيلية التي تدور في إطار محتويات ومكونات الإشكالية الأساسية وأهم مكوناتها.

الكتاب يعرض متنا متنوعا من التجارب التشكيلية لمجموعة من الفنانين من بينهم التونسيون سمير التركي ونجا المهداوي

وترى دمق أن إشكالية الدراسة تتمحور حول التوليف والترابط في جسد المادة المتحولة إلى أثر فني معاصر، حيث يحضر جسد المادة من خلال جسدية الأثر الفني الذي يحتوي أبعادا حسية نتلمّسها في سطحه وحياكته وشكله ولونه وحجمه بغية تبين كيف أن التضافر يلامس المستوى النظري والفكري، فيمتد نحو المستوى المادي والافتراضي. ومن هنا نتساءل عن دور التضافر بما هو موجه رئيسي في الفكر الجمالي لدى هؤلاء الفنانين، وبما هو عامل ترابط يجمع بينهم ضمن مقترح تشكيلي يكون أكثر تحررا.

وسعت إلى الإجابة على تساؤلات محورية في إطار معالجتها لإشكالية الدراسة، منها: هل من سبيل إلى فن تشكيلي عربي معاصر له مرجعياته البصرية ومفرداته ومكوناته المتصفة بالخصوصية؟ وكيف يمكن للفنان العربي أن يتعامل مع موروثه العربي الإسلامي من منظور فني معاصر؟ هل من بدّ لتقنين العملية الإبداعية في جملة من المقومات والخصائص التشكيلية باعتبار أن التطلعات والتوجهات الفنية بالنسبة إلى الفنانين لا تتماشى مع لغة التعبير التشكيلي المعاصر؟

 كما توجهت بتساؤلات حول إمكانية التجانس والتمازج بين مختلف الأجناس الفنية؟ فهل سعى الفنان إلى توظيف تقنيات الفنون الأخرى في حيز الفن التشكيلي؟ وهل يعتبر استحضار المواد والخامات ذات الحياكات والملامس المختلفة في بيئة العمل الفني من مظاهر التعبير التشكيلي المعاصر وأشكاله؟ أم أن مقياس تقيمنا لهذه الأعمال مرتبط بكيفية تحكم الفنان ومقدرته على التوليف والمزاوجة بين الخامات، بأسلوب فني ينم عن وعيه بجمالياتها وخصائصها الفنية؟ وهل حضور الخامات وتمثلاتها في الفن المعاصر لا بد أن يكون مرتبطا بفعل التوليف؟

هذه التساؤلات الإشكالية توزعت محاورها على ثلاثة فصول رئيسية جمعت فيها الباحثة أهم الجوانب الوصفية والتحليلية للتكوينات الفنية التي تعتمد التوليف كمفهوم تناولته العديد من الدراسات الفنية والفلسفية والفكرية.

وقد اهتمت بداية في الفصل الأول بتناول التضافر في التشكيل العربي المعاصر من حيث معالجة مفهوم الحداثة وتجلياته في الفكر العربي المعاصر، ومدى تبلوره في العديد من الممارسات في إطار حضور ما بعد الحداثة نسقا فكريا يسجل الراهن في إطار السياق التاريخي وتبلوره في إطار الممارسات التشكيلية المعاصرة.

أما في الفصل الثاني فاهتمت بمسألة الصياغة التوليفية في نماذج الممارسات التشكيلية العربية عبر تخصيص مجال البحث في تقديم الأعمال الفنية للفنانين السابق ذكرهم، لتقرأ الأعمال الفنية وتفككها بالنظر في العلامات المؤسسة لها. أما في الفصل الثالث فاهتمت بمسألة التنظير لفكرة التوليف بالتضافر عبر التطرق إلى البحث في جدلية الفكر الرياضي والتشكيلي انطلاقا من تجربة الفنان سمير التركي.

التوليف والتضافر

الصورة

تشير دمق إلى أن مفهوم التوليف في التجارب الفنية بما هو فعل تشكيلي يقوم على مبدأ التضافر كمفهوم فكري وأسلوب تعبيري يسير وفق نسق أحادي يختلف من فنان إلى آخر بحسب خصوصية الفعل الذي تراوح بين التوليف الخطي والشبكي، كما تبين في أعمال سمير التركي ولطفي الأرناؤوط حيث تشابكت الخطوط وتقاطعت وفق قواعد رياضية وهندسية مدروسة تنظم حركة سير المفردات التراثية لينتج عن ذلك تكوينات نسيجية تتضافر وتتوالد فيها الخطوط وبالتالي تتعدد الصيغ التوليدية للمفردات فتنبثق بذلك الضفيرة المولدة لفعل التشبيك خاصة أن كليهما قد خبر أيضا، معالجات الفن الإسلامي بثرائها اللوني والإيقاعي.

وتوضح أن التجارب الفنية التي اعتمدتها في سياق دراستها لم تشتبك أسلوبيا من الناحية الشكلية والتقنية، إذ لمحنا لكل واحد منهم مفرداته البصرية وآلياته التشكيلية التي تتماشى مع خصوصيات المفاهيم التي يعالجها. فتجليات فعل التضافر لم تترسخ في إطار العمل المادي الملموس

 المرتبط بالتعامل المباشر مع المادة حيث توسع المسار الفني لدى بعض الفنانين في اتجاه الممارسة الرقمية التي انفتحت على البرمجيات والتطبيقات الحديثة، والتي بدورها مكنتهم من طرح قيم جمالية جديدة تسيطر عليها التطورات العلمية.

 وفي هذا السياق تأتي تجربة الفنانة فدوى دقدوق باعتبارها حملت الكثير من التنوع والإثارة على مستوى تناولها لمفهوم التضافر الذي تجلى بأساليب فنية متعددة تم تبينها في فعلها التشكيلي الذي انتقل ما بين الخيوط الصوفية ذات البعد المادي والحسي وصولا إلى تقنية الفوتومنتاج التي مكنتها من إعادة صياغة المنسوجات عبر تحوير بنيتها وإعادة تركيب صورها وذلك بالتوليف بين العديد من المقاطع الفنية التي لا تنتمي لذات المنجز الأصلي. وهنا كانت البرمجيات الرقمية بمثابة المطية لخلق سياقات استيطيقية ورؤى جمالية متجددة للتضافر.

وضمن السياق نفسه استقرأت دمق تجربة الفنان نورالدين الهاني، وذلك بالتركيز على جانب فعله التشكيلي الذي اتسم بالطابع الرقمي حيث انفتحت شخصيته الفنية على وسيط تعبيري هجر من خلاله ورشة التصوير الزيتي مستبدلا إياها بالحاسوب وبرمجياته الحديثة. وبهذا تحولت الكتابة التشكيلية لديه من التعامل الملموس مع المواد إلى الفعل الافتراضي ذي الطبيعة الرقمية التي طرح من خلالها ذات الإشكالية التي تناولها فوق محمله التصويري.

الكتاب يحلل ويسائل نقديا بعض التجارب الفنية البصرية العربية المعاصرة التي اعتمدت في منجزها الإبداعي التوليف والتضافر

 وبالتالي لمحنا تعامله مع التطبيقات الرقمية من منطق كونها وسائط وآليات تساعده على تبليغ أفكاره، مستدعيا بذلك فعل التشابك والفعل التوليدي للمفردات بصفة رقمية من خلال الشبكة الخطية التي يرسمها فوق شاشة الكومبيوتر. ومن هنا كانت ممارسة الهاني الرقمية في امتداد وتواصل مع ممارسته التصويرية حيث أنها تضمنت ذات الأفكار والمفاهيم التي استحضر خلالها نفس العلاقات اللونية والخطية.

وفي ضوء تحليلاتها لتجارب الفنانين موضع الدراسة استجلت دمق أن “التعبير عن مفهوم التضافر لم يكن مقيدا بسياق فكري واحد، إذ اختلفت الممارسات واكتسبت المنجزات البصرية تمظهرات ذاتية تفيد فكرة التحاور مع القيم الجمالية التي اتسم بها أسلوب التضافر الذي أحالنا لدى بعض الفنانين إلى التشبيك الهندسي وغيره من أشكال الأطباق النجمية الموجودة في الفن العربي الإسلامي على خلاف آخرين كان هاجس الإبداع لديهم مفتوحا على المرجعيات الغربية التي انبنت على أسلوب التضافر كممارسة تشكيلية دون أن ننسى الفنانين الذين أظهروا فكرة التضافر من خلال التوليف بين مفردات الحروف العربية.

وخلصت دمق إلى أن مفهوم التضافر قد تداول استعماله في معظم الحضارات وعبر عدة عصور كجزء من الموروث الزخرفي الذي سجل حضوره على جدران المساجد والكنائس، لنجد له صدى في بعض الممارسات التشكيلية ذات الصبغة التصويرية والنسيجية والرقمية والفوتوغرافية، فهو مفهوم قابل للتطور حسب مستجدات العصر.

كما له عدة تفرعات انبثقت من صميم الفعل التشكيلي الذي قادنا نحو مفهوم التشابك والتقاطع والتداخل والتناسج والتوالف والتوالد.. وهو ما تلمّسناه في مختلف التجارب الفنية المعتمدة في البحث والتي تعكس العديد من الإشكاليات التي تفتح المجال لبحوث أخرى. وبالتالي يبقى العمل الفني بمختلف تجلياته مقوما أساسيا لانبثاق الفعل الإنشائي المعبر عن موقف الفنان إزاء المعطيات المادية والحسية بين الفكر والمادة.

14