حياة يومية خاوية بلا أفلام وثائقية

مواهب السينمائيين الوثائقيين العرب تضيع بسبب انعدام الاهتمام والدعم فضلا عن غياب قاعدة المتلقين المهتمين بهذه السينما.
الأحد 2021/08/22
تجارب سينمائية مميزة للمخرج فيرنر هيرزوغ

في إحدى تجارب المخرج الفذ فيرنر هيرزوغ وهو يدخل مع الممثل الراحل كلاوس كينسكي في صراع ودّي في أثناء تصوير الفيلم الوثائقي، صديقي المفضّل، ثم ليقول كلمته الخالدة، يا لها من حياة خاوية من دون وثيقة فيلمية تؤكد هذا النوع من الصمت والجنون.

كل شيء في هذه الحياة يحتاج إلى التوثيق بشكل أو بآخر، تجميد اللحظة من عمر الزمن هو أكثر من ضرورة.

لاحظ فقط كيف تبدّلت أحوالنا وأحوال البشرية منذ مطلع العام 2020 وحتى الساعة ما بعد الجائحة، وكيف تغيّر شكل وإيقاع الحياة وكيف أصبح كل الناس تقريبا يرتدون نصف قناع يغطي نصف وجوههم.

ما عدا ذلك، فإن كل الحروب والصراعات والانقلابات والمؤامرات وحياة الشوارع الخلفية وقاع المدينة والضواحي والقرى وأعالي الجبال وكل المشرّدين والمهجّرين واللاجئين والمغامرين في أمس الحاجة لعين الكاميرا الوثائقية الراصدة.

لاحظ أهمية الصور رديئة النوعية بالأبيض والأسود التي جسدت الحربين العالميتين كمثال على يوميات الصراع، وكيف أصبحت السينما الوثائقية منهلا لصانعي الدراما الروائية يستفيدون من التوثيق ومن الصور الفيلمية التي توثّق تلك الحقبة بل ويشترون حقوق مقاطع فيلمية بأكملها لتضمينها أفلامهم الروائية.

في المقابل لا يرى السواد الأعظم من جمهور المشاهدين في السينما إلا الدراما والصراع والحركة والمطاردات والإثارة والرومانسية والخيال العلمي والفانطازيا في مزيج نفيس من جماليات الإبداع السينمائي بينما تغيب السينما الوثائقية اللامعة والقريبة بشكل جدي من الإنسان ومن يوميات الإنسان، من الواقع ومتغيراته، من نبض الحياة وطباع البشر، من البيئات والأماكن والتواريخ والعادات والفولكلور والطعام والمال والمضاربات وغيره كثير.

وسواء أكنا نتحدث عن استقامة الحياة أم عن تعرّجاتها، عن الحياة الصحيحة المتوازنة أم تلك الحياة التعيسة والكارثية والمأزومة، فإننا نتحدث عن السينما الوثائقية حتى تغدو جزءا حيويا من حياة كاملة، وبهذا وجد هذا النوع الفيلمي مداه في كونه ليس إلا امتداد الحياة نفسها بجميع متغيراتها.

وإذا ذهبنا بعيدا في هذه الإشكالية ما بين الروائي والوثائقي فإن تعويد الجمهور على جماليات الصورة الوثائقية هو أكثر من ضرورة، وأن انغماس الجمهور العريض في الروائي يبعده عن رؤية ما يجري من حوله كما يضيع عليه صورة الواقع بكل ما فيه من خفايا وأسرار لا يبرع فيها سوى الوثائقي بالبراعة والكيفية التي ينجز بها مهمته بجدارة ويقترب من حياة الشعوب.

سوف تحضر هنا تجارب ويرينر هيرزوغ وإيرول موريس ومايكل مور وأنييس فاردا وروبرت غرين وكلود لازمان ولي بلانك وجيمس مارش وقبلهم فلاهيرتي وفيرتوف، وأما على الصعيد العربي فسنتذكر تجارب عمر أميرالاي وقاسم حول وعبدالهادي الراوي وقيس الزبيدي وقتيبة الجنابي وعباس الشلاه وطارق عبدالكريم وعباس فاضل وغيرهم.

التجارب العربية المتقطعة خلفت وراءها صمتا وثائقيا شبه كامل تعثّرت فيه جهود ومواهب سينمائيين وثائقيين بسبب شبه انعدام الاهتمام والدعم، فضلا عن شبه غياب قاعدة المتلقين المهتمين بالسينما الوثائقية والذين يكرّسون جل اهتمامهم للفيلم الروائي الدرامي الطويل ويغيبون الوثائقي، وخير دليل على ذلك أنك لو استطلعت آراء أي شريحة من الجمهور لجهة كم فيلما وثائقيا شاهدوا في مقابل الروائي والدرامي الطويل لاتضحت الصورة بشكل جليّ ولأيقنّا حجم الخسارة والفجوة الكبيرة القائمة بسبب غياب أو إهمال وتناسي الوثائقي.

وأما إذا انتقلنا إلى السؤال الذي يمكن أن يطرح في أثناء هذه المناقشة والذي يدور حول فكرة الوثائقي ومن أين نأتي بالموضوعات الوثائقية وما إلى ذلك من أسئلة تتعلق بسيكريبت الوثائقي، فإن الإجابة ببساطة هي أن الأفكار والموضوعات الوثائقية والصالحة لكي ننجز حولها أفلاما وثائقية إنما تكمن في الحياة اليومية ومستجداتها ومتغيراتها وما اختزنته البشرية أيضا عبر تاريخها، وكذلك الحال للشعوب وسكان المدن والقرى وحيثما وجد الإنسان ووجدت الحياة ثمة فكرة لفيلم وثائقي جديد وياله من منجم لا ينفد.

15