"زي القمر".. دراما مصرية تعلي من قيمة الصبر على المحن

حكاية "ست الهوانم" تكشف مهارات ليلى علوي التمثيلية في الأدوار الصعيدية.
الخميس 2021/08/19
مشكلة واحدة كفيلة بأن تقلب الهدوء إلى صخب

لجأت بعض شركات الإنتاج في مصر إلى نوعية جديدة من الأعمال الدرامية بدأت تتزايد عندما وجدت نجاحا فنيا ومتابعة من قبل الجمهور، تتمثل في تقسيم العمل الواحد إلى مجموعة من الحكايات المنفصلة المتصلة بدلا من تقديم مسلسل طويل يمتد إلى ثلاثين حلقة أو أكثر قد يجد المشاهدون صعوبة في متابعته كاملا.

القاهرة - لعب المسلسل المصري “زي القمر” على مسألة الحكايات والقصص المتباينة واختار نجمة لكل منها تستطيع أن تتحمل عبء ومسؤولية العمل بمفردها وتعبر به إلى وجدان الجمهور، حيث استعان المخرج طارق رفعت بكل من ليلى علوي وإلهام شاهين وجومانة مراد في ثلاث قصص مختلفة تعالج مشكلة اجتماعية أو أكثر وتتداخل فيها الخيوط.

وفي حكاية “ست الهوانم” التي قامت ببطولتها ليلى علوي ومجدي كامل وعرضت على بعض المحطات المصرية، قدّم المخرج صورة بانورامية لأسرة مكافحة تتعرّض إلى مشاكل حياتية قاسية وتحاول من خلال تماسكها العاطفي امتصاصها، وهي من تأليف شهيرة سلام التي قدّمت من قبل مسلسل “أريد رجلا” بطولة إياد نصار في قالب اجتماعي كلاسيكي ينحو تجاه العصرنة.

بدأت حكاية “ست الهوانم” المكونة من خمس حلقات مدة كل منها نحو ست وثلاثين دقيقة بشكل رومانسي من خلال أغنية بصوت ليلى علوي وسط الحقول الخضراء، والتي برعت في استخدام صوتها بطريقة أوحت للوهلة الأولى أن العمل سيكون خاليا من التعقيدات الاجتماعية المعتادة، لكن مع مضي الوقت يبدأ المشاهد في اكتشاف العديد من المشكلات التي تواجه أسرة “مريم” التي جسّدتها ليلى علوي، وزوجها “غريب” وقام بدوره الفنان مجدي كامل.

الهدوء والقناعة

ليلى علوي استغلت مهاراتها التمثيلية وتسللت بنعومة إلى قلوب المشاهدين عبر دور يجمع بين الرقة والخشونة
ليلى علوي استغلت مهاراتها التمثيلية وتسللت بنعومة إلى قلوب المشاهدين عبر دور يجمع بين الرقة والخشونة

على الرغم من بساطة الأسرة المكونة من مريم وغريب وبنتيهما والحياة الهادئة والقانعة، إلاّ أن مشكلة واحدة كانت كفيلة بأن تقلب الهدوء إلى صخب، والقناعة إلى عراك مع الحياة، وتسير المشكلة في خطين متوازيين ألحقا ضررا بالغا بالأسرة.

أحد الخطين تمثل في اقتراض الأب مالا لم يستطع الوفاء به وتعرّض للابتزاز من المقترض “عيد” (الفنان أمير شاهين) الذي أراد مقايضته بالتنازل عن الدين مقابل الزواج من ابنته الكبرى، وهو ما جعله يرفض ويفضل تعرّضه للسجن على القبول بهذا الزواج البغيض له ولمريم.

أما الخط الثاني، وهو الأطول والأكثر تشويقا، ويعدّ الخط المحوري في الحكاية فيتعلق بتعرّض مريم للتحرش من أحد الجيران ومطاردته لها حتى منزلها في غياب الزوج الذي يظهر فجأة ويضربه على رأسه ويدخله في غيبوبة.

أظهر هذا الخيط مجموعة من العوامل المتشابكة، أهمها أن هناك مشكلات كفيلة بأن تغيّر مجرى الحياة، فالزوج غريب مطالب بالدفاع عن شرف زوجته، ومريم كانت حريصة على أن تبدو وفية وتحافظ على طابعها الرومانسي البسيط، ولم يحل تغيّر الحياة وغموضها عقب هذا الحادث دون الحفاظ على تماسك الأسرة وقدرة الشابتين على الوقوف بجوار الأب والأم.

قدّمت حكاية “ست الهوانم” شكلا من أشكال الرومانسية غير المعتادة بين رجل وامرأة تزوجا منذ نحو عقدين واستمرت الأحلام معهما، ولم تتأثر بالأزمات اليومية وظل كلاهما يقاوم الضغوط ويحرص على إظهار أروع المشاعر للطرف الثاني، ساعدهما المخرج في تحريك الكاميرات بطريقة تكشف تعبيرات الوجه دون كلام، والموسيقى التصويرية التي بدت متوافقة في الإطار العام الحزين والمتفائل.

وقدّمت علوي دورا جديدا عليها في حرصها على اتقان اللهجة الصعيدية، والتي ينطق بها سكان جنوب مصر، وتختلف في مخارج بعض الكلمات عن سكان القاهرة، وحرصت على أن يكون نطقها خاليا من الهفوات التقليدية التي يقع فيها بعض الفنانين، وبدت أكثر إجادة من مجدي كامل الذي شارك من قبل في أعمال تناولت البيئة الصعيدية، وإن كان أجاد تجسيد دور العامل البسيط المكافح بشرف.

واستعرضت الحكاية رسائل عديدة مباشرة وضمنية بخصوص عمق رابطة الحب وأنها لا تفتر مع مضي سنوات الزواج طالما أن كل طرف محافظ على صلة التفاهم والاحترام مع الطرف الآخر، كما قدّمت الصداقة والوفاء من خلال نموذجين أحدهما صديق غريب الذي يعمل سائق سيارة تاكسي، والثانية صديقة مريم التي تعمل ممرضة في مستشفى وكلاهما وقف بقوة مع غريب ومريم في محنتهما التي تعرضا لها والمتعلقة بضرب غريب للمتحرش بزوجته.

ومن الإشارات الضمنية التي يفهمها المشاهد تلقائيا أن مريم وغريب من أسرة مسيحية ولم تظهر ملامح الديانة إلاّ في مشهدين سريعين فقط، الأول عندما ذهبت مريم إلى الكنيسة وأضاءت الشموع وبدأت تدعو لإنقاذها من المحنة، والثاني قبيل النهاية عندما ثبتت براءة غريب، وأشار بعلامة التثليث على الصدر الشهيرة في المسيحية كدلالة على الحمد والشكر والتوفيق.

وتعمّدت الحكاية عدم الإشارة إلى الديانة، خاصة أن كل الأشخاص القريبين من الأسرة مسلمون، فالطفل الذي يعمل مع غريب اسمه “علي” وصديق غريب اسمه “رضوان” وصديقة مريم ترتدي ما يشبه الحجاب، في إنكار واضح لعدم وجود فتنة بين مسلمين ومسيحيين في مصر، وأن الكل سواسية في وطن واحد دون تفرقة، وقد نجحت هذه الرسالة في توصيل المعاني الاجتماعية التي حملتها.

سد الفراغات الفنية

أسرة مكافحة تتخطى كل العقبات بالحب
أسرة مكافحة تتخطى كل العقبات بالحب

لم يضم العمل عددا كبيرا من الفنانين، ودار في مجمله حول أسرة غريب ومريم والمحيطين بهما من دون أن يشعر الجمهور بأن هناك فجوة أو قلة في الممثلين، فقد تكفلت المساحة الفنية الرحبة التي تحركت فيها علوي بسدّ بعض الفراغات المحتملة في هذا الفضاء الواسع بحكم قدرتها على الإجادة في الأداء والتلوين الجذاب بشكل سلس لا يشعر معه المشاهد بقفزات فجائية.

وربما كانت المشكلة التي يمكن تلمسها بسهولة متمثلة في بطء حركة الكادرات أحيانا وطول الوقت الذي تستغرقه بعض المشاهد والتي كان من الممكن اختصارها، وقد أدّى ذلك إلى إمكانية اختصار الحلقات الخمس في سهرة واحدة مكثفة لتوصيل الرسائل التي تتضمنها حكاية “ست الهوانم”.

وقد يكون عنوان الحكاية ملتبسا بالنسبة إلى البعض، فكيف لسيدة بسيطة ومكافحة يطلق عليها هذا الوصف؟ وفي أحد المشاهد حل غريب هذا اللغز عندما قال إن والدتها كانت تراها كذلك، بمعنى أن اللقب لا علاقة له بالغنى أو الفقر، وهو أيضا ما ينطبق على الكرامة التي ليس لها علاقة بأي منهما، وبدا أن المخرج والمؤلفة حرصا على توصيل ذلك إلى الجمهور عبر مشاهد مختلفة، الأمر الذي منح الحكاية عمقا في المعاجلة الفنية لقضية تثير الجدل بين بعض الناس عندما يتناقشون حولها.

حكاية "ست الهوانم" قدّمت شكلا غير معتاد من الرومانسية بين رجل وامرأة تزوجا منذ نحو عقدين واستمر حبهما متوهجا

ورسّخت قصة رومانسية بسيطة بين زوجين مستقاة من الواقع فكرة الرضا والصبر على الشدائد، فضلا عن القناعة التي يردّدها المصريون في أمثالهم الشعبية باعتبارها “كنز لا يفنى”، والتي بدت واضحة في المباراة الفنية التي وقع تقاسمها بالعدل بين ليلى علوي ومجدي كامل، حيث حرصت مريم وغريب على التمسّك بها وكان كلاهما يقدّم تفاصيلها الدقيقة بطريقة مريحة للمشاهدين لا تتضمن افتعالا أو مبالغة.

وحوت مشاهد الكفاح والرعب التي عاشتها مريم الكثير من المعاني عندما هرب غريب، وهو ينتظر اتهامه في جريمة الشروع في قتل المتحرش بزوجته، وتمكنت علوي من إضفاء قدر كبير من الحيوية على الشخصية التي مزجت فيها بين مشاعر متناقضة عديدة، بين الحب والكراهية، الرومانسية والقوة، الرقة والخشونة، الوفاء والخداع، الضعف والانهيار، وساعدت هذه الازدواجية اللافتة في تقديم دور مريم من لحم ودم كما تظهر في الواقع كل شخصية تمرّ بهذا الكم الكبير من المحن.

جاءت النهاية مفجعة في موت المتحرش بمريم قبل أن يفتك به غريب مرة ثانية، والذي ثبتت براءته التي أعادته إلى سيرته الأولى في الحارة الشعبية التي يعيش فيها مع أسرته في إطار من التلاحم الاجتماعي والود الذي تظهر تجلياته في احتفالات المصريين جميعا بقدوم شهر رمضان.

16