لا شيء حقيقيا إلا ما كان قابلا للتزييف

ثمّة حقائق أثبتها العلم والتجربة ولم تعد تحتاج إلى قرائن وبراهين. فشعور الإنسان بوجوده المادي ودوران الأرض حول الشمس ومجموع زوايا المثلث.. كلها أمثلة عن حقائق ثابتة لا يمكن الطعن فيها، أو هكذا يُخيّل إلينا. فقد يكون وجودي مجرد حلم وقد تختل المنظومة الشمسية فتكفّ الأرض عن الدوران أو تزول تماما، بل قد لا يبلغ مجموع زوايا المثلث 180 درجة خاصة في فضاء منحن، ما يعني أن الحقائق المكتسبة يمكن أن تكون نسبية وقابلة للنقاش.
عادة ما نضفي صفة الحقيقة على أشياء كثيرة في حياتنا اليومية، دون أن نكلف أنفسنا عناء فحصها ومساءلتها للتأكّد من صوابها أو عدمه، لأنها في تصورنا بديهية لا تحتاج إلى نقاش. ولكن أن يمسك المرء بالحقيقة لا يعني أن يعلنها كيفما اتّفق، وإنما الشرط أن يعرف أن ما يقال حقّ، والتبرير إحدى الميزات التي ترافق الحقّ. ومن ثمّ وجب إخضاع ما نعتقد أنه حقيقي للمناقشة، لأن الحقائق التي تخضع للنقاش تنحو دائما نحو معرفة الحقيقة.
يمكن تعريف الحقيقة بكونها تَطابُقَ المعرفة بموضوعها، أي مظهر الشيء (التيار الواقعي) أو بفكرتها، (التيار المثالي)، وعند التأكد، ينتج عن ذلك التطابق شعور باليقين.
أما النقاش فيفترض شعورا مضادّا، حيث لا نواجه رأينا برأي الآخر إلا لأن ما نتناقش حوله ليس أمرا بديهيا، لدى أحد الأطراف على الأقل. ولكننا عندما نخلص إلى اتباع رأي الآخرين، فهل يعني ذلك أن التوافق جعل الحقيقة المعنية نهائية لا تقبل النقاش؟
الشكوكيون والعقلانية

الرأي ليس الحقيقة، فهي ما يخالف الدغمائية أو الرأي، لأن اعتقاد المرء بأنه يعرف يمنعه من مساءلة اليقينيات
إن عبارة “غير قابل للنقاش” تضفي صيغة نهائية على الشيء الذي تصفه، فإذا أطلقناها على حقيقة ما، صارت تلك الحقيقة أشبه بالعقيدة، والحال أن الحقيقة، باستثناء الوحي المنزّل، هي كل ما ليس دغمائيّا.
ولكن إذا افترضنا ألا شيءَ حقيقيٌّ إلا متى ظل قابلا النقاش، ألا يفضي الأمر في تلك الحالة إلى نسبوية لا تنتهي، فنقع في موقف الشكوكيين الذين يعتقدون أن الحقيقة، إن وُجدت، لا يمكن التعرّف عليها؟ ما يعني أن الحديث عن “حقيقة لا جدال فيها” إشكاليّ، لأن العبارة تبدو مريبة وضرورية في الوقت نفسه.
من الطبيعي أن يكون للمرء رأيٌ في ظواهر كثيرة من داخل محيطه أو خارجه، وفي غياب التوافق، يجد نفسه في مواجهة آراء غيره ممن ينظرون إلى هذه المسألة أو تلك نظرة مختلفة. بيد أننا كلما اعتبرنا بعض الأحكام مُحقّة، تضاءلت إمكانية نقاشها، ما يعني أنّ ما لا يقبل النقاش هو ما عُرفت غايته النهائية. وهو ما عناه ليبنيتز حين حدّد العقل بكونه “الحقيقة المعروفة التي يدفعنا ارتباطها بحقيقة أخرى دونها معرفة إلى القبول بها”.
العقلانية في اعتقاد ليبنيتز تعوّض الرأي الفردي بحقيقة موضوعية لا تقبل النقاش، ولكن معرفة المبدأ النهائي للأشياء في فلسفة ليبنيتز تخص الذات الإلهية، فهي وحدها التي حازت المعرفة الكلية، فإن وجدت حقائق لا تقبل النقاش فإن معرفة الإنسان بها طوباوية، عسيرة المنال.
وفي رأيه إن معرفة ما يجعل كل شيء ضروريّا يسمح بوضع حدّ لكل نقاش حول الحقيقة. فالله وحده يملك هذه المعرفة “لا شيء يحدث، دون أن يكون بوسع من يعرف الأشياء أن يقدم سببا كافيا لتحديد لماذا جرت الأمور على هذا النحو، وليس على نحو آخر”. وكلما حاول الإنسان أن ينفذ إلى جوهر قناعاته تملّكه الشكّ، تماما مثل هاملت حين عجز عن الثأر لأبيه، لأنه لم يكن واثقا من الطريقة التي مات بها، هل قتل بفعل فاعل أم بلدغة ثعبان، ولذلك ظل متردّدا، وما تردُّده إلا تعبيرٌ عن صراع داخليّ لا يستقرّ على رأي.
الشكوكيون، مثل سكتوس إمبيريكوس (160 – 210 ق. م)، يعتقدون ألا وجود لحكم قائم على أسس صحيحة يمكن نعته بالصواب. وهذا لا يعني أننا يمكن أن نؤكد بصفة دغمائية أن الحقيقة لا تُمسَك، وإنما كل ما يتبدى لنا لا يمكن تمريره إلى الآخر.
ولو أننا نجد لدى الشكوكيين ما هو قابل للنقاش، ولكن هذه العبارة لا تعني إلا استحالة التأكد عبر لغة مشتركة من أيّ شيء كان. ومن ثَمّ كان الشكوكيون يوصون الفرد، لتجنب الوقوع في الدغمائية، بتعليق حكمه، وهو ما يطلقون عليه “إيبوشي”، أي وضع المسألة بين قوسين. ذلك أن النقاش ليس خصاما، كما نرى في رواية “اسم الوردة” لأمبرتو إيكو، حيث يتم الفصل في الجدل حسب إجراء مرتب، تكون الأولوية فيه للحجاج الاستدلالي القائم على تحليل مفهومي لعبارات المسألة المطروحة. ما يعني أن الصواب يمكن أن يتخاصم حوله اثنان، دون أن يتناقشا.
الحقيقة والنقاش
ولسائل أن يسأل: ألا تتضمّن رغبةُ مناقشة الحقيقة شيئا ما يحميها من الدغمائية؟ وكيف نتقدم في مجال المعرفة إذا لم نترك الباب مفتوحا أمام إمكانية مساءلة ما نعتقد أنه مكتسبٌ بصفة نهائية؟
يميز أفلاطون بين الرأي والحقيقة، فالحقيقة هي ما يخالف الدغمائية أو الرأي، لأن اعتقاد المرء بأنه يعرف يمنعه من مساءلة اليقينيات، بحثا عن الحقيقة.
فالذين يتمسكون بآرائهم معتقدين أنهم يملكون الحقيقة، يمنعون أنفسهم من اكتشافها، لأن الرأي، كما يقول، حاجز أمام اكتشاف الحقيقة، ومن قنع به اكتفى بما يبدو له حقيقة، فالرأي نسبي، رهينٌ خاصة بالأمكنة وبالبشر، والحال أن الحقيقة كونية.
ومن المفكرين أيضا من يرى أنه بدل أن نحاول اتّخاذ إقامةِ الدليل على الحقيقة في كل ظرف ونمط تثبت نهائي، يُستحسن جعلُ النقاش معيارا لما هو حقّ.
في نظر كارل بوبر مثلا، أن ما يصنع حقيقة نظرية علمية هو صمودها أمام محاولات الإنكار التي نعارضها بها. فلكي تكون نظرية ما صائبة، ينبغي أن نكون قادرين على تفنيدها، فلا شيء حقيقيّا في اعتقاده إلا ما كان قابلا للتزييف، أي ذلك الذي يتيح النقاش، ويصمد أمام محاولات التفنيد إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.
الحقيقة هي ما يبقى مفتوحا للنقاش، شرط أن يكون هذا النقاش نزيها، جديا، حريصا على تطوير معرفة الإنسان
وفي رأي بوبر كلما زادت روائز التفنيد عددا، ازدادت حجة النظرية المعنية، لاسيما عند فشل تلك الروائز. ويخلص بوبر إلى القول إن الحقيقة، أي حقيقة، لا يمكن أن تكون غير قابلة للنقاش، لأن النقاش وبُعده النقدي هما اللذان يمنحانه ادعاءه قول الحقيقة. ولكن دون أن يقودنا النقاش إلى النسبوية، لكون الحقيقة تؤدي دور تعديل وتنظيم، أي أننا نضع الحقيقة موضع اختبار كي نزيل الزيف.
والخلاصة أننا حين نقول إن بعض الحقائق لا تقبل النقاش، فإننا يمكن أن نبرر بذلك الحجج الباطلة التي تجعل الجدل عقيما أو لاغيا من أساسه. ومن ثَمّ فإن الحقيقة هي ما يبقى مفتوحا للنقاش، شرط أن يكون هذا النقاش نزيها، جدّيّا، حريصا على تطوير معرفة الإنسان بالعالم وظواهره، المادية منها والمعنوية.