الحاج منار

الأحياء لا يملكون سوى اللقاء مع أحبابهم الراحلين في زوايا الذاكرة واستعادة كل ما مر في رفقة العمر التي بدأت وانتهت ملأى بوعود غير ملباة.
الأحد 2021/06/27
بوابة الموت مفتوحة لكل الأحياء بلا استثناء

فجأة، لفظ ابن عمي الغالي الحاج منار أنفاسه الأخيرة وأغمض جفنيه، وغادر الدنيا – وهي سجن الأتقياء – طليقا مطمئنا، وينبوعا متفجّرا بالحنان والمحبة والبراءة. استطاع في إغماضة خاطفة أن يحفر في قلبي أخدودا من الحزن، فكيف أقرأ في عتمة الأخدود ما قاله الإمام علي “الموت تحفة المؤمن”؟ وكيف أتذكر أن كل امرئ هو طريد الموت الذي لا يفلت منه هارِبُه!

عندما ارتجلت سطورا قليلة لنعي ابن عمي منار ربما ظن البعض أن ما قلته عن الفقد الأليم هو النص المستحق لرجل من ذوي الأدوار العامة أو أصحاب الكلام المرصوص، أو لفقيه من ذوي الأطروحات البليغة في أي حقل معرفي. وليس ذلك هو حقيقة الأمر. فمنار، وكثيرون أمثاله، لديهم ما هو أعظم. هو واحد من غير ذوي الكلام المرصوص، لكنه من أصحاب الإيماءات الجميلة المتدفقة بوداد مُحبّب ينبع من قلبه، مهما كانت الأحوال، فترسمه عيناه وشفتاه بابتسامات عذبة يُدرك فحواها وأبعادها كل من يتلقاها.

صحيح أن بوابة الموت مفتوحة لكل الأحياء بلا استثناء، ولا ينجو من الموت من خافه ولا يُعطى البقاء من أحبه؛ لكن فقد العزيز معناه انغلاقه على نفسه في عالم الأبدية، تاركا المحبين في شوق إليه، يلامسون موته بشغاف قلوبهم في كل حين حتى تدركهم آجالهم ويألم عليهم آخرون.

كثيرون هم الذين رأوا في موت الفجأة أوجع الصدمات، لكنه أخف وطأة على المسافر إلى مستقره الأبدي، دون المرور بالمرض المُضني والشيخوخة التي تضيق معها آفاق التطلع إلى الزمن الآتي، إذ يصعب التغاضي عن فكرة دنوّ الأجل، والإحساس الدائم باحتمالات الرحيل في كل لحظة.

مفتاح هذا الأجل بيد الله، والموت حق من حقوقه، بل إنه سُنّة إلهية ثابتة مرتبطة بحركة الخَلق والحياة والوجود، وأي خلل في ميزان سُنة الموت يؤدي إلى صدع عميق في حركة نظام سُنّة الحياة نفسها عندما تضيق الأرض بما رحبت. لقد جعل رب العزة الموت فيصلا بين مراحل الحياة البشرية، وجعله نهاية مرحلة التكليف وبدء مرحلة الخلود في الدار الآخرة!

لا يملك الأحياء سوى اللقاء مع أحبابهم الراحلين في زوايا الذاكرة، واستعادة كل ما مر في رفقة العمر التي بدأت وانتهت ملأى بوعود غير ملباة.

كان الحزن الشخصي هو الشعور الطبيعي على إنسان بمثابة شقيق حلو المعشر لم تلده أمي، يتسم حضوره بجماليات استثنائية. كان يصنع الطمأنينة لمن حوله، ويترك القلق لنفسه، وبرحيله تصبح المقبرة أكثر إيناسا. كان أبوه شقيق والدي الوحيد والأكبر. عاش الشقيقان وغادرا الدنيا متحابيْن، لم يعكر صفو إخائهما حرفٌ واحد من جدال أو خلاف. وكان منار حصرا أكثرنا شبها بطيبة أبيه. زارني في أبريل الماضي عندما كنت في القاهرة، وكان متعجلا ومتطيّرا من وباء كورونا. كنت ألح في طلب الإطالة في صحبته. لكن إحساسه بالأمان ألح عليه مشروطا بعودته سريعا إلى غزة التي ما أن وصلها حتى صُبت عليها قذائف من الجو لم تشهد مثلها وقائع أي حرب. كوفيد – 19 يضرب من المسافة صفر، و”أف 35″ تضرب من الجو. فإن لم تقتل الثانية تتولى الأولى الهجوم. لا أفق لنهاية العدوان، ولا مسرّة أو نجاة باللقاحات، ولا جودة في معالجة الجريح، أو تطبيب المُصاب. حكومة الحرب التي ترحل تُخلي مواقعها لحكومة أسوأ، واللقاحات التي تأتي تصل مضروبة ومكملة للقصف، كأنها شقيقة القذائف. على الرغم من ذلك، أحس منار بالأمان والرضا بالقرب من البحر وعلى الأرض المعرضة للقصف والفايروس. كان ذا عشق إعجازي، حتى الموت، للوطن الذي أحب. سلام عليه بين اللحظة واللحظة، وبين العيون مفتحةً والجفون مُطبقة عليها!

 
24