يوميات واقعية في سينما السيرة الذاتية

ما يزال موضوع سينما السيرة الذاتية يستحق المزيد من القراءات والمقاربات النقدية التي تسهم في فهم الأساليب الإخراجية والشكل الجمالي والعناصر التعبيرية البارزة والأكثر أهمية.
فهذا النوع الفيلمي الذي يتجدد بتجدد حياة الشخصيات التي تستحق أن تظهر على الشاشة وتكشف عن حياتها الخاصة ومكابداتها وتجارب شتى مرت بها، هو ما يدفع باتجاه إعادة فهم سينما السيرة الذاتية.
وما بين فهم هذا النوع الفيلمي وبين تكريسه نوعا فيلميا أقرب إلى الجمهور وجدنا أن تلك السيرة الذاتية التي هي أقرب إلى الواقعية والوثائقية هي التي منحت الجمهور مساحة من متعة المتابعة والاهتمام إلى درجة أننا لا نجد في أنواع فيلمية أخرى ما يوازي ذلك الحجم من المصداقية واستيعاب المسافة الفاصلة ما بين الوثائقي والروائي، لتبرز الشخصية خلال ذلك على أنها محور اشتغال مهم في هذا النوع.
كانت سير القادة والزعماء والمفكرين والفلاسفة والمخترعين وسائر الذين برعوا في منجزهم الإبداعي هي محور ذلك النوع السينمائي، ومن هنا يمكننا مثلا التوقف عند نماذج من هذا النوع من خلال أفلام السيرة الذاتية التي تبدأ من تشي غيفارا إلى ستالين إلى هتلر إلى كاسترو وإلى مالكوم إيكس إلى جمال عبدالناصر إلى مارتن لوثر كينغ إلى ماو تسي تونغ إلى غيرهم.
شخصيات تكمن في سيرتها الذاتية الكثير من العناصر الدرامية ونموذج الشخصيات الجديرة بالحياة على الشاشة.
يمكننا مثلا أن نتوقف عند سيرة نيلسون مانديلا الذي سبق وخلدته سينما السيرة الذاتية من خلال عدد من الأفلام ومنها “مانديلا” من إخراج فيليب سافيل 1987، وفيلم “مانديلا وكليرك” إخراج جوزيف سارغيت 1997، وفيلم “وداعا بافانا” إخراج بيل أوغوست 2007، وفيلم “الذي لا يقهر” للمخرج كلينت ايستوود 2009، وفيلم “ويني مانديلا” إخراج فيليب سافيل 2011، وصولا إلى فيلم “طريق مانديلا” إخراج جاست تشادويك 2015، والذي عرض للمرة الأولى فيما كان مانديلا يلفظ أنفاسه الأخيرة.
سنكون إزاء ثنائية الوثائقي / الروائي إذ سرعان ما سيتبادر إلى الذهن سؤال عن كيفية ملء تلك الفجوة أو المساحة الممتدة زمانيا، وهي زمن السجن في جزيرة نائية في العام 1964 والأحداث التي وقعت في إطار الثورة المتصاعدة التي خلفها مانديلا وراءه وصولا إلى خروجه من السجن عام 1990.
ولعل استخدام الوثائق الفيلمية هي إحدى الأدوات التي لجأ إليها المخرج في تدعيم قصة الفيلم وعدم إحساس المشاهد بالرتابة في ما يتعلق بحياة المعتقل اليومية، بل إنه في الحقيقة أقام توازنا موضوعيا في البنى السردية ما بين الروائي والوثائقي بما يخدم السيرة الذاتية إذ ظلت العلاقة الندية بين مانديلا وسجّانيه وفي أقلها ذلك السجال بينه وبين آمر السجن في تلك الجزيرة النائية، والذي أمعن في التنكيل بمانديلا وصحبه.
يقرأ الناقد جوردان هوفمان هذه العلاقة الاشكالية الثلاثية: الروائي/ الوثائقي / السيرة الذاتية في ما يتعلق بمانديلا وعلى مر التجارب الفيلمية التي جسدت شخصيته، أن المخرج قد استفاد منها في إعادة صياغة معالجة مختلفة. وركز كثيرا على خطابات وأحاديث مانديلا وجعلها خلفية للأحداث.
ولنا أن نضيف منح المخرج لحياة مانديلا الشخصية مساحة مقنعة ومبررة إلى حد ما كشاهد على فشل زواجه الأول والرومانسية التي طبعت علاقته برفيقة دربه ويني، ولقد أظهر مانديلا وهو الواثق من قراراته ورغم اختلافه مع مكتبه السياسي في اعتماد النضال السلمي بديلا عن العنف وهي نقطة خلاف جوهرية مع ويني أفضت إلى انفصالهما قبل سنوات من رحيله.
تلك هي سينما السيرة الذاتية التي تحتل موقعاً يجاور الأنواع السينمائية الأخرى وأمامنا منجز جديد لسيرة ذاتية درامية بامتياز وفيها من الأسرار والأوجاع وقصص النجاح والمغامرة والحب والعاطفة الشيء الكثير.
مثال آخر، هي سيرة سيرجيو دي ميلو، رجل السياسة البارع، الذي لم يكد يترك ساحة من ساحات الصراعات من حول العالم إلا وكان له حضور في نقاطها الساخة، ولم يكد صوت الرصاص وأصوات الضحايا وصراخ الساسة وصراعاتهم يغيب عن ذاكرته قط.
أرشيف متنوع وكثيف ولقطات وثائقية سوف تنتهي بنا إلى لحظة وصول سيرجيو إلى العراق هو وفريقه ونزول طائرته في ما يفترض أنه مطار بغداد، ولكنه ليس كذلك، وذلك أول أخطاء الجغرافيا المكانية التي وقع فيها المخرج بالتصوير في الأردن على أساس أننا في العراق وفي بغداد تحديدا.
لا شك أن الاستهانة بعنصر المكان، بالفضاء المحسوس الذي تتفاعل معه الشخصية هو خطأ إخراجي واضح، فطبيعة العمران على التلال والجبال الواطئة في الأردن هي غيرها في البيئة المنبسطة السهلية – الصحراوية في العراق وذلك ما لا يمكن التغاضي عنه أو التمويه عليه لاسيما وأن المكان يتفاعل بقوة أثناء السيرة الذاتية.
خلف شاشة معتمة تستمع إلى سيرجيو في مقابلة معه وحيث يُطلَب منه أن يختصر سيرته كلها فيردّ ضاحكاً، كيف لي أن اختصر مسيرة 34 عاماً في بضع دقائق.
واقعيّاً هي بالفعل سيرة ثرّية وغزيرة عرض محطّاتها الأساسية لكن كاتب السيناريو والمخرج يبدو أنهما اكتفيا بساحتين من ساحات عمل سيرجيو وهما العراق، حيث الموت المروّع تحت كابوس الغزو الأميركي لهذا البلد ومن قبلها كانت محطته المهمة في تيمور الشرقية بينما السيرة الذاتية تتسع إلى المزيد من التنوع.