قصيدة التفعيلة في عمان مدخل للفكر والثقافة

الباحث جمال الحراصي يرى أن الاستعارة اليوم في الدراسات الحديثة وخاصة المعرفية تغيّر النظر إليها جذريا وأصبحت دلالاتها قبلية وبعدية.
الثلاثاء 2021/06/22
عمان لها خصوصية ثقافية وشعرية (لوحة للفنان أنور سونيا)

مسقط- في كتابه الجديد “الاستعارات المعرفية دراسة في قصيدة التفعيلة العمانية”، يقترب الباحث العماني جمال بن علي الحراصي، أستاذ اللغة العربية المساعد بجامعة الشرقية، من شعر التفعيلة مع عدد من الشعراء العمانيين ومن بينهم سعيدة الفارسي، هلال الحجري، حسن المطروشي، خالد المعمري، متناولا بالتحليل عددا من الدواوين لكل شاعر منهم.

يرى الحراصي أن الاستعارة اليوم في الدراسات الحديثة وخاصة المعرفية، هي ليست الاستعارة كما طرحها أرسطو ونظر إليها، وتبعه من جاء بعده من علماء البلاغة العربية، فقد تغيّر النظر إليها جذريا، وأصبحت دلالاتها قبلية وبعدية وكذلك في بنية النص نفسه، ومعها أصبح الاستقراء أكثر اتساعا، ليس للكاتب أو الأديب فقط، وإنما للفكر الذي تتحرّك من خلاله وفيه، بل هي نفسها أصبحت صانعة لهذا الفكر.

الباحث جمال الحراصي يرى أن الاستعارة أصبحت قادرة على تقديم صورة أكثر مشهديّة عن النص نفسه

 ويقول الحراصي في مقدمة الكتاب إن اهتمامه بهذا الموضوع رأى فيه طرحا يعطي رؤية جديدة قادرة على سبر الفكر والثقافة التي يشتغل فيها النص، وليس فقط سبر النص؛ وكذا وجد فيها ما يمكن من خلاله استقراء مدونة دراستنا المعروضة على مختبره؛ فالاستعارة كما تُطرح الآن من أنها آتية من الذهن والفكر، ثم تنعكس في الكلام بشقيه المكتوب والشفهي، وبشقي الأدب؛ النثر والشعر، أصبحت قادرة على تقديم صورة أكثر مشهديّة عن النص نفسه، وعمّا قبل النص، وما بعد النص.

ويضيف الباحث أن “خلاصة الطرح الجديد للاستعارة أنها ليست أسلوبا بيانيا كما كان في النظرية القديمة وليست زخرفا أو زينة خاصة بالنص الأدبي، وإنما هي من كنه اللغة الجوهري ومن صلبها، وإنها لا تختص بالنص الأدبي والشعر فقط وإنما موجودة في كل الكلام، ولا يمكن الاستغناء عنها، بل إنها تكون صانعة لطريقة تفكيرنا وطريقة معالجتنا للواقع، فمن خلال النظر لتصوُّرات الإنسان الاستعارية يمكن تفسير طريقة تفكيره، وكذلك تحليل الكثير من سلوكياته وتصرفاته؛ ومن هذا المنطلق تأتي أهمية هذه الدراسة حيث تستهدف شعر التفعيلة في عُمان مما سيعطي تصوُّرا للبنى الحاكمة لتفكير الإنسان العماني عامة وليس شاعر التفعيلة فقط”.

جاء هذا الكتاب في أربعة فصول، كرس الحراصي أولها للمداخل النظرية للدراسة، متناولا ثلاثة مباحث وهي: العلوم المعرفية والاستعارة المعرفية وشعر التفعيلة العماني؛ وفي المبحث الأول بيَّن أن المقصود بالعلوم المعرفية وتأريخ نشأتها وأهم روادها والحقول التي تطرقها وأهم النظريات الداخلة فيها، وغيرها من الأمور. أما في مبحث الاستعارة المعرفية، فتطرَّق إلى تأريخ الاستعارة بدءا من أرسطو مرورا بعلماء البلاغة العربية وانتهاء بالمعرفيين المعاصرين من أمثال لايكوف وجونسون، مبيّنا كيف تغيّرت النظرة إلى الاستعارة والأهمية التي أصبحت تحظى بها في العلوم الحديثة.

أما في مبحث شعر التفعيلة العماني فتناول إرهاصات ظهور هذا الجنس الشعري في عُمان، وأهم ملامحه وأهم روّاده. وقد وجد الباحث أن قصيدة التفعيلة لم تتأخر في الظهور هنا في عُمان وإنما كانت مواكبة لحركة هذا الشعر في الوطن العربي، فكم وجد أن لشعر التفعيلة في مجموعة من الملامح والصفات التي يتسم بها ومن أهمها اتسامه بالتطوُّر وأن له مرجعيات متعددة، ومن أهم السمات التي تميّز بها توظيفه للتأريخ وخاصة التأريخ العماني، كما أنه غني بالصور الفنية، وذو لغة وأسلوب خاص متجدد فلغته لغة شعرية غير عادية.

دراسة استقصائية

وفي الفصل الثاني بدأ الباحث في التعاطي التطبيقي مع شعر التفعيلة العماني وفق نظرية الاستعارة المعرفية، وكان في هذا الفصل متتبعا لما أطلق عليه المعرفيون الاستعارات البنيوية وهي أحد ثلاثة أنواع من الاستعارات المعرفية، هي: البنيوية والاتجاهية والوجودية. فوجد في شعر التفعيلة العماني مجموعة من الاستعارات البنيوية من مثل استعارات الحياة واستعارات الإنسان واستعارات الحب؛ وهذه الاستعارات بيّنت كيف يبني الشاعر العماني والإنسان العماني تصوُّراته لهذه المجالات وبالتالي نستطيع فهم الكثير من طرق تفكيره تجاهها وكذلك التصرفات والأفعال التي تصدر منه في تجاربه.

وكرس الحراصي الفصل الثالث من كتابه للبحث في الاستعارات الاتجاهية؛ وجاءت أهمية الاتجاه والفضاء في الدراسات المعرفية من منطلق أن للإنسان جسدا مركزيا وهذا الجسد له اتجاهات كالشمال واليمين والأسفل والأعلى، وبالتالي هذه التجربة الحسية للإنسان مع جسده من شأنها أن تؤثر على الكثير من تجاربه وأن يبني الكثير من تصوُّراته المستجدة بناء عليها. وبدراسة وجود هذه التصوُّرات الاتجاهية في شعر التفعيلة العماني وجد الباحث الكثير من التصوُّرات التي تحكم سلوكياتنا وأفعالنا.

وختم الباحث كتابه، الصادر عن دار نثر للنشر ضمن المشروع الثقافي لطباعة الإصدارات العمانية بالجمعية العمانية للكتاب والأدباء لعام 2021، بفصل رابع حلل خلاله الاستعارات الأنطولوجية (الوجودية) من مثل استعارات الكيان والمادة واستعارات الوعاء، فوجد الكثير من الاستعارات التي من شأنها أن تؤثر في سلوك الإنسان من مثل “الوطن لباس” فهذه الاستعارة تبيِّن أهمية الوطن بالنسبة للإنسان العماني، وكيف أنه لا يمكن أن يستغني عن وطنه مثلما لا يمكنه أن يستغني عن لباسه.

ثمة أسئلة يطرحها هذا الكتاب ضمن دراسته الاستقصائية، ومن أهم تلك الأسئلة التي حاول المؤلف الإجابة عليها في حيثيات الكتاب أيضا “هل شعر التفعيلة في السلطنة عاكس للبنى الفكرية والثقافية لدى المجتمع العماني، أم أن هناك هوة بينهما؟ وهل من الممكن أن العلوم المعرفية تنزل إلى واقع التطبيق، وخاصة على النص الشعري؟ إذا ما تم وضع في الاعتبار أن أساس تعاطيها هو مع الكلام، وهل البنى الاستعارية في شعر التفعيلة العماني تتسم بالتماسك والتعاضد أو يمكن أن نجد هناك اختلالات، تكشفها لنا التصوُّرات الاستعارية المختلفة؟”.

كما يتساءل الباحث ما هي أبرز التصوُّرات الاستعارية التي يباشر بها هؤلاء الشعراء الوجودَ من حولهم؟ وما التجارب الفيزيائية والمجرّدة التي شكّلت هذه التصوُّرات؟ وما هي تجليات التصوُّرات الاستعارية القاعدية سلوكيا وفعليا؟ وكيف يمكن فهم الكثير من تصرفاتنا وأفعالنا في ضوء الفكر التصوُّري لدينا؟ وكيف يؤثر تصوُّر معيَّن على صاحبه وينعكس في حياته اليومية سلوكا وتصرُّفا؟ أسئلة كثيرة سيجد القارئ حضورها بشكل تفصيلي بين دفتي هذا الكتاب.

 

15