هل فقدت البنوك المركزية دورها في السيطرة على التضخم؟

تشير توقعات كبار الفاعلين في المجال المالي والاقتصادي إلى أن الأسواق العالمية مقبلة على صدمة كبيرة، حيث ينذر ارتفاع تكلفة السلع وحفاظ الفيدرالي الأميركي على أسعار فائدة قريبة من الصفر بمخاطر تفجر التضخم مما سيربك الأسواق المالية.
واشنطن - تجمع تحاليل خبراء أن الأسواق العالمية مقبلة على صدمة التضخم في ظل تغير السياسة النقدية التي فرضتها جائحة كورونا والسخاء في تحفيز الاقتصادات الأمر الذي يدعو حسب مصرفيين ومديري أصول إلى ضرورة تقييم السياسات النقدية.
وقال لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك روك” إنَّ “المستثمرين ربما يقللون من شأن احتمالية ارتفاع التضخم”.
وفي فعالية افتراضية استضافها “دويتشه بنك” قال فينك “لم يكن لدى معظم الناس مهنة تزيد عن أربعين عاماً، وشهدوا فقط تراجعاً في التضخم على مدار الثلاثين عاماً الماضية. لذلك ستكون هذه صدمة كبيرة جداً”.
وتسرَّب القلق هذا العام إلى الأسواق الأميركية بشأن ارتفاع التضخم بعد ارتفاع تكلفة السلع التي شملت الخشب والصلب.
وبدأ فينك حياته المهنية في “فيرست بوسطن” عام 1976 أثناء ارتفاع التضخم، إذ وصل مؤشر أسعار المستهلك الأميركي إلى 14.8 في المئة في شهر مارس من عام 1980.
وأضاف فينك الذي يدير حالياً أكبر مدير للأصول في العالم أنَّ البنوك المركزية قد تضطر إلى إعادة تقييم سياساتها إذا أصبحت الأسعار المرتفعة مصدر قلق.
وتابع “الاحتياطي الفيدرالي الأميركي التزم بالحفاظ على أسعار الفائدة بالقرب من الصفر على المدى القريب، وأشار إلى أنَّه سيتحمَّل التضخم فوق هدفه البالغ 2 في المئة من أجل التعويض عن الفترة التي انخفض فيها دون هذا المستوى”.
وإذا أعاد الاحتياطي الفيدرالي النظر في ذلك فقد يبدو غير متوافق مع حوافز مالية منفصلة، وفقاً لقول فينك. واقترح الرئيس جو بايدن تدابير إضافية لتحفيز الاقتصاد الأميركي، بما في ذلك خطة الإنفاق على البنية التحتية بقيمة 1.7 تريليون دولار.
وقال فينك “رفع أسعار الفائدة في الوقت نفسه الذي نقوم فيه بهذا التحفيز المالي العملاق يعدُّ أمراً غريباً”.
وتعرف آليات لجوء الحكومات إلى الاقتراض من بنوكها المركزية لتمويل الإنفاق العام باسم “التمويل النقدي”، وهي علاقة خطرة أكدتها وقائع التاريخ من جمهورية فايمار الألمانية في ما بين 1918 و1933 وصولا إلى ما حدث في الكثير من دول أميركا اللاتينية والكثير من بلدان العالم الثالث.
ويؤدي اقتراض الحكومات من البنوك المركزية عادة إلى انحدار سريع، حين تسمح تلك العلاقة بتمادي السياسيين في الاعتداء على استقلال البنك المركزي.
ويؤدي توفر التمويل السهل عادة إلى ارتفاع هائل في معدل التضخم نتيجة قيام الحكومة بضخ السيولة النقدية بحرية كبيرة في مختلف قطاعات الاقتصاد.
وقال لاري فينك إنَّ “الأسعار قد ترتفع أيضاً مع تكيُّف الشركات مع حقائق تغيُّر المناخ”. كما دافعت شركة “بلاك روك” التي تتخذ من نيويورك مقرَّاً لها عن قيام الشركات بالكشف عن كيفية تخطيطها للتكيُّف مع اقتصاد خالٍ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بحلول عام 2050.
وأضاف فينك “إذا كان حلنا هو فقط الحصول على عالم أخضر، فسنواجه تضخماً أعلى بكثير لأنَّنا لا نملك التكنولوجيا للقيام بكل هذا حتى الآن. هل سنكون مستعدين لقبول المزيد من التضخم إذا كان سيقوم بتسريع بصمتنا الخضراء؟ هذا السؤال سيكون قضية سياسية كبيرة في المستقبل أيضاً”.
وكانت الأسواق قد شهدت نوبات قلق متكررة خلال شهر مايو الماضي تقلبت معها المؤشرات الرئيسية بشكل ملحوظ، خاصة عندما كشفت البيانات الحكومية عن وصول التضخم إلى مستويات غير متوقعة، وهو ما سارع الاحتياطي الفيدرالي للتأكيد على أنه ارتفاع غير مستدام.
ورغم تكرار أعضاء الفيدرالي منذ مارس الماضي أنهم لا ينوون رفع الفائدة قريبا، وأنهم لا يتوقعون انفلاتا لمستويات التضخم، فإن اضطراب سوق الأسهم (لبضع جلسات) يعكس وجود شعور مستتر لدى بعض المستثمرين، مفاده أن الأمر قد يخرج عن السيطرة عند مرحلة ما.
تكيف الشركات مع المناخ يفرض مواجهة تضخم أعلى نظرا لعدم امتلاك التكنولوجيا لذلك
وطمأن الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الأسواق بشكل شبه أسبوعي تقريبا منذ مارس بأنه لا يتوقع خروج التضخم عن السيطرة في الأشهر المقبلة، حتى بعد أن وصلت المخاوف بشأن التضخم الخطير الذي قد يلحق الضرر بالاقتصاد العالمي إلى الذروة.
وأظهرت بيانات وزارة العمل الأخيرة أن التضخم الأميركي وصل إلى 4.2 في المئة خلال الاثني عشر شهرا المنتهية في أبريل، وهو أعلى مستوى منذ الأزمة المالية العالمية بين عامي 2007 و2009، ومع ذلك يصر الفيدرالي على أن الضغوط مؤقتة فقط.
وقفز التضخم لدى الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أعلى مستوى منذ عام 2008. وفي منطقة اليورو، بات من المؤكد تقريبا أن التضخم خلال الفترة المتبقية من هذا العام سوف يتجاوز هدف البنك المركزي الأوروبي القريب من 2 في المئة، حسب بيانات رسمية.
وبالنسبة إلى الأسباب يتفق محافظو البنوك المركزية على جانبي المحيط الأطلسي على أن هذه الزيادات في الأسعار هي نتيجة مؤقتة للتأثير السريع لوباء كوفيد – 19 الذي أحدث اضطرابا قويا في سلاسل التوريد وتسبب في تقلب الأسعار.
وقال رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي السابق في نيويورك ويليام دادلي إنه من المرجح أن يكون الارتفاع الأخير في التضخم في الولايات المتحدة مؤقت في الوقت الحالي، لكنه قد يصبح أكثر ثباتا في السنوات القادمة مع عودة المزيد من الناس إلى العمل.
في المقابل يشير النقاد إلى مخاطر ضغوط الأسعار التي قد تقود إلى سلسلة من ردود الفعل، حيث يتوقع حينها الجميع ارتفاع الأسعار في المستقبل، مما يتسبب في حلقة تضخمية حقيقية ترتفع معها الأسعار بالفعل وبشكل متواصل في جميع المجالات.
وقديما كان جليا أن محافظي البنوك المركزية يعلمون ما يتعين عليهم فعله للتعامل مع التضخم، لكن الآن حيث يصارعون العواقب الاقتصادية لوباء كورونا، انهار الإجماع على أفضل السبل لتعزيز نمو الأسعار المنخفض والمستقر.
وبعد سنوات من تحديد أسعار الفائدة على أساس توقعات التضخم والسعي لتحقيق هدف يبلغ نحو 2 في المئة، تتبع السلطات النقدية الرائدة في جميع أنحاء العالم إستراتيجيات مختلفة. وكان التحول في إستراتيجية الولايات المتحدة هو الأكثر جذرية.
وحذرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأسبوع الماضي من أن “اليقظة مطلوبة”، ولكن أي محاولة لرفع أسعار الفائدة يجب أن تكون “معتمدة على الدولة وموجهة بالتحسينات المستمرة في أسواق العمل، وعلامات ضغوط التضخم الدائمة والتغيرات في موقف السياسة المالية”.