تركيا تسعى لترميم علاقاتها بفرنسا تفاديا لتوسع عزلتها

التغيرات الإقليمية والدولية تجبر أردوغان على المهادنة.
الاثنين 2021/06/07
عقبات جيو سياسية أمام أجندة التوسع التركي

تبنت حكومة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ مطلع العام خطابا مهادنا وتصالحيا تجاه حلفائها الأوروبيين وخصومها الإقليميين أيضا. ويعزو مراقبون التطور المفاجئ في خطاب أنقرة إلى إكراهات جيوسياسية فرضت واقعا جديدا.

أنقرة - وصل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى فرنسا الأحد في أول زيارة يقوم بها مسؤول رفيع من هذا البلد بعد أشهر من التوتر بين البلدين، بينما تسعى أنقرة إلى ترميم علاقاتها مع باريس تفاديا لتوسع عزلتها التي باتت ملامحها تتوضح مع ما شهدته الساحة الإقليمية والدولية من تغييرات دراماتيكية.

وتأتي الزيارة في وقت تسعى فيه أنقرة لتحسين علاقاتها مع باريس بعد أشهر من التوتر بين البلدين حول عدد من القضايا مثل ليبيا وسوريا وشرق المتوسط ومهاجمة باريس للنفوذ التركي على الجالية المسلمة في فرنسا.

وفي أكتوبر الماضي، شكك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في “الصحة العقلية” لنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، متهما إياه بـ”معاداة الإسلام” بسبب تمسكه بمبدأ الحرية في نشر الرسوم الكاريكاتيرية للنبي محمد وبخطابه ضد الانفصالية الإسلامية في فرنسا.

وتحاول باريس التأسيس لإسلام فرنسي من خلال منع سيطرة جماعات متطرفة على الخطاب الديني حيث شملت الإجراءات التي أقرتها السلطات الفرنسية في هذا السياق الإشراف على المؤسسات التعليمية الدينية، وإغلاق المؤسسات والجمعيات المتطرفة، وطرد الأئمة الأجانب الذين يحرّضون على العنف والمواطنين من مزدوجي الجنسية المتورطين في أنشطة إرهابية وتشديد المراقبة على الشبكات الاجتماعية.

ومنذ سنوات، تبحث الحكومات الفرنسية المُتعاقبة عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل بفرنسا، مع ضمان تلبيتهم لمُتطلبات الاندماج في المُجتمع الفرنسي، مثل إتقان اللغة الفرنسية، والحرص على التنوع الثقافي، واحترام تراث وتاريخ وقانون البلاد، والحفاظ على مبادئ وقيم الجمهورية والعلمانية.

أردوغان يراجع سياساته العدائية لتفادي عزلة متنامية في الخارج ومقلقة في الداخل مع انحسار الحلفاء واتساع هوة الخصوم

وكانت فرنسا قد أوقفت برنامجا لاستجلاب الأئمة من تركيا، أكدت أجهزة الاستخبارات الفرنسية أنهم يشكلون عصب دعم الانعزالية وانفصال الجاليات المسلمة عن مجتمعاتهم المحلية ومبادئ الجمهورية.

وفي 2010، وقعت كل من تركيا وفرنسا “إعلان نوايا” بخصوص وضع الموظفين الدينيين الأتراك، والذي تم بموجبه رفع عدد الموظفين من 121 إلى 151 موظفا، لكن باريس تراجعت في 2019 عن هذا الإعلان بتخفيض عدد الأئمة الأتراك بدل الترفيع في حصص انتدابهم.

ويقول خبراء فرنسيون إن قرار فرض قيود على إيفاد أئمة من تركيا يهدف إلى القضاء على خطر الانعزالية وهي خطوة مهمة ضمن خطة شاملة لمحاصرة أنشطة جماعات الإسلام السياسي.

وكثفت أنقرة تحركاتها تجاه حلفائها الغربيين والإقليميين منذ بداية العام للخروج من عزلتها المتزايدة على الصعيدين الإقليمي والدولي.

ويرى مراقبون أن قيادة باريس حملة لفرض عقوبات أوروبية على تركيا، جعلت النظام التركي يدرك أن الدخول في صدام مع باريس رهان خاسر في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات سياسية واقتصادية عميقة، الأمر الذي أجبر أنقرة على تخفيف لهجتها لاستمالة باريس.

وكانت فرنسا قد قادت مطلع ديسمبر جهود الاتحاد الأوروبي لفرض عقوبات تمهيدية على تركيا، على أن يتم فرض عقوبات مشددة أكثر في ضوء التقييم الأوروبي لسلوك أنقرة في شرق المتوسط، حيث دأبت على إثارة التوترات مع كل من اليونان وقبرص في ما يتعلق بحقوق التنقيب عن النفط والغاز.

والخلافات بين البلدين متشعبة وتمتد إلى قضايا كثيرة، بدءا من ليبيا ومناطق أخرى في الشرق الأوسط ووصولا إلى خلاف تركيا مع اليونان بشأن الحدود البحرية والتنقيب عن المحروقات في مياه شرق المتوسط، والأزمة التي اندلعت في ناغورني قرة باغ بسبب تدخل أنقرة في الصراع، فضلا عن قضية الرسوم الكاريكاتيرية المسيئة للنبي محمد.

وكادت تركيا وفرنسا أن تدخلا في مواجهة في يونيو الماضي بعد أن حاولت سفينة حربية فرنسية تفتيش سفينة تركية للتأكد من الامتثال لحظر الأمم المتحدة توريد أسلحة إلى ليبيا.

وتشهد علاقات عدة دول في الاتحاد الأوروبي توترا شديدا وخاصة حول الأزمة الليبية ومسألة الهجرة، فضلا عن احتياطيات الأمن والغاز في شرق البحر المتوسط، حيث تتهم أنقرة باتباع سياسة توسعية وتجاهل التحذيرات الدولية المتكررة والتي يقابلها النظام التركي باستخفاف وتجاهل تام.

وسبق لتركيا أن قدمت تعهدات بتخفيف التوتر شرق المتوسط والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع أثينا وقبرص، لكنها لم تلتزم بذلك، إلا أنّ متابعين باتوا مقتنعين بأنه لا خيار لأنقرة في ظل المتغييرات الجيوستراتيجية المتسارعة إلا التهدئة واستمالة خصومها.

الحكومات الفرنسية المُتعاقبة تبحث عن آليات لتأهيل مُتخصصين في الإسلام المُعتدل، مع ضمان تلبيتهم لمُتطلبات الاندماج في المُجتمع الفرنسي

وتؤشر تحركات أنقرة منذ مطلع العام وميولها لتصفية الخلافات العالقة مع حلفائها الأوروبيين وخصومها الإقليميين على تغير دراماتيكي في سياساتها الخارجية، في خطوة يرى فيها مراقبون إعادة تموضع فرضته المتغييرات الإقليمية والدولية المتسارعة.

ودفع توقيع دول عربية لاتفاق سلام مع إسرائيل ووصول الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض، النظام التركي إلى مراجعة سياساته العدائية الإقليمية والدولية لتفادي عزلة باتت متنامية في الخارج ومقلقة في الداخل مع انحسار الحلفاء واتساع هوة الخصوم.

ويعرف أردوغان جيدا أن الإدارة الأميركية الديمقراطية الجديدة خلافا لسابقتها الجمهورية ستقلص حرية تركيا في المناورة في السياسة الخارجية بشكل كبير وأنّ استعداءها خيار لن يكون صائبا.

وأكد الرئيس بايدن قبل وصوله إلى السلطة أنه سيعمل على الإطاحة بالرئيس التركي عبر صناديق الاقتراع، مشيرا في الآن ذاته إلى أنه سيعيد بناء التحالفات مع أوروبا، التي شابها الكثير من التوتر في ظل إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. وخدم هذا التوتر بشكل أو بآخر أجندات أردوغان التوسعية.

ويقول مايكل لي المدير العام السابق للتوسع في المفوضية الأوروبية “لقد حاولت تركيا، بموافقة دونالد ترامب الضمنية، أن تلعب دور قوة إقليمية، لها صلات وثيقة بروسيا ودول أخرى في الشرق الأوسط؛ للعب لعبتها الخاصة، إلى حد كبير جدًا. كان لديها مجال كبير للقيام بذلك في ظل إدارة ترامب، ومن المرجح أن يكون بايدن أكثر أهمية”.

ويجادل لي بأن رغبة الإدارة الأميركية في تنسيق أوثق مع الاتحاد الأوروبي بشأن تركيا تتناسب مع إستراتيجيتها الأوسع لاستعادة تحالف القيم عبر الأطلسي وتسخير قوتها في التعامل مع اللاعبين الاستبداديين الرئيسيين مثل روسيا والصين.

5