لن تنقلب الدنيا على الأردن لو سحب سفيره من إسرائيل

منذ بداية الاعتداءات الإسرائيلية في المسجد الأقصى والقدس قبل أسابيع وفي ظل التوتر المزمن في العلاقات بين الأردن وحكومة بنيامين نتنياهو، كان الشارع الأردني يتوقع اتخاذ إجراء دبلوماسي أو اقتصادي ملموس، يجاري انتهاك حرمة المقدسات التي تعترف إسرائيل نظريا بالوصاية الأردنية عليها.
لكنّ شيئا من ذلك لم يحدث. وضيّعت أجهزة الحكم فرصة الاقتراب من توجهات الرأي العام خصوصا في أعقاب أزمة “الفتنة” ومع حالة عدم الاستقرار الحكومي التي سادت المملكة في الشهور الأخيرة، وفوق هذا كلّه تداعيات الوباء الاقتصادية والاجتماعية، وحتى النفسية.
رعاية المقدسات الإسلامية في القدس تمثل أحد أركان الخطاب السياسي الرسمي منذ تأسيس المملكة، التي كانت القدس الشرقية والضفة الغربية جزءا من أراضيها حين احتلتها إسرائيل في حرب 1967. كما نصت معاهدة وادي عربة في 1994 على أن إسرائيل “تحترم” الدور الأردني في إدارة الأماكن المقدسة وعلى رأسها المسجد الأقصى.
غير أن الأردن لم يعتبر نفسه طرفا في أزمة القدس منذ اندلاعها وحتى مع توسعها إلى هجمات متبادلة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة. واقتصر ردّ الحكومة على التنديد ودعوات الهدوء والوساطة مع أن لديها مروحة من الخيارات التي يمكن أن تناور بها حكومة نتنياهو أو على الأقل تسجل موقفا منسجما مع الشارع المحبَط الذي شهد مظاهرات احتجاج على ضعف الموقف الرسمي تجاه الأحداث في فلسطين.
ثم ماذا يعني أن تتجاهل الحكومة أو أجهزة الحكم، الطلب الذي تقدم به كل أعضاء مجلس النواب الـ130 لطرد السفير الإسرائيلي وسحب السفير الأردني من تل أبيب؟ أما كان لأجهزة الحكم أن تستفيد من إجماع البرلمان في صياغة موقف رسمي ودبلوماسي أقوى تجاه إسرائيل؟ وهي من جهة أخرى، ربما تمنح البرلمان نافذة للتنفس من طابعه “الديكوري” الجامد في منظومة الحكم!
رغم مطالب الشارع والبرلمان، اختارت الحكومة الكلام الكثير واللافعل إزاء الممارسات الإسرائيلية في القدس، والمسجد الأقصى الذي كان مسرحا للاعتداءات ويديره موظفون تابعون للحكومة الأردنية.
كان في وسع الأردن الاختيار بين جملة من الخطوات التي تجسد غضبه مما يجري في فلسطين من بينها خفض مستوى التمثيل الدبلوماسي أو تعليق اتفاقية الغاز الإسرائيلي وحتى التلويح بمراجعة معاهدة السلام التي يقول الأردن إن إسرائيل انتهكتها حين هاجمت المسجد الأقصى.
يعلم الأردنيون أن خطوات من هذا العيار تتطلب الكلمة الفصل من الملك عبدالله الثاني، وهي خطوات لا تعتبرها الحكومة من مسؤوليتها في المملكة التي تخلت حكوماتها المتعاقبة عن “ولايتها العامة” لصالح أجهزة الحكم الأخرى.
لكن العلاقة متوترة أيضا ومنذ سنوات بين الملك ونتنياهو شخصيا. وسبق أن تحدث دبلوماسيون وصحف غربية عن انقطاع تام في التواصل بين الزعيمين. وقيل إن العاهل الأردني لا يردّ على اتصالات رئيس الوزراء الإسرائيلي ويفضل التعامل مع وزراء آخرين في حكومة نتنياهو، لأسباب متعلقة خصوصا بالقدس لاسيما بعد اعتراف إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بـ”القدس الموحدة” عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأميركية إليها.
خرج الخلاف بين الملك ونتنياهو إلى العلن قبل حوالي شهرين حين رفض الأردن فتح أجوائه لطائرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي كان متوجها إلى الإمارات في رحلة رسمية، وذلك في ما بدا ردّا على المماطلة الإسرائيلية في تنظيم حضور ولي العهد الأمير حسين للصلاة في المسجد الأقصى وإحياء ذكرى الإسراء والمعراج، وهو ما لم يحصل.
هذه الحادثة شكّلت مفاجأة وخطوة أردنية غير مسبوقة في إدارة العلاقات مع إسرائيل، وربما كانت أكبر أثرا أو على الأقل تضاهي قرار تقليص التمثيل الدبلوماسي الذي تتجنبه عمّان.
الأردن ليس في وارد قطع العلاقات مع إسرائيل ولا تطمح المطالب الشعبية والبرلمانية إلى هذا الحد. لكنّ دون ذلك هامشا واسعا للتحرك واستخدام الأسلحة الدبلوماسية المشروعة والممكنة للبقاء في دائرة التأثير على ملف القدس والقضية الفلسطينية بصفة عامة.
فوق هذا كلّه، كادت حكومة بشر الخصاونة أن تتهم إسرائيل صراحة بالوقوف خلف “محاولة الانقلاب”، ولو أن مسؤولين سابقين كبارا وصحافيين وكُتابا محسوبين على أجهزة الحكم لم يترددوا في الحديث عن دور للموساد في المخطط الذي قالت الحكومة إنه بقيادة ولي العهد السابق الأمير حمزة.
حتى بالنسبة إلى واشنطن، الحليفة التقليدية للدولة العبرية، فليس من المتوقع أن تتأثر علاقاتها كثيرا مع الأردن في حال قررت عمّان اتخاذ إجراء دبلوماسي قوي يضع حدودا جديدة للعلاقة المتأرجحة مع تل أبيب والتي ينبغي أن تكون حساسة تجاه أي انتهاكات إسرائيلية في فلسطين، وخصوصا في القدس.
لا شك في الدعم الأميركي اللامحدود لإسرائيل ومعارضة واشنطن لأي إجراء دبلوماسي ضد حليفتها، ولا شك أن الأردن، حليف الولايات المتحدة أيضا، سيدفع ثمنا لهذا الإجراء. لكن هل كان على المملكة الاستفادة في ذلك من التغير الذي طرأ على الإدارة الأميركية ووصول جو بايدن إلى الحكم بعد الاختراقات التي حققها ترامب لصالح إسرائيل وأضعفت موقف الأردن وأثارت قلقه؟
وحين لم يستثمر الأردن أيا من هذه المسوغات، انحسر تأثيره في تطورات المشهد على الضفة الأخرى من النهر، وانتهى إلى جزء من مبادرة وساطة بقيادة فرنسا ومشاركة مصر لوقف النار بين حماس وإسرائيل.
لم تكن الدنيا لتنقلب على الأردن لو قرّر مثلا خفض التمثيل الدبلوماسي مع إسرائيل أو غيرها من الخطوات الأخرى المرتبطة باتفاق الغاز أو معاهدة وادي عربة، بل سوف تؤسس أجهزة الحُكم لطريقة جديدة في التعامل مع إسرائيل، وتكون أكثر قربا إلى توجهات الناس والمزاج العام الذي عكّرته وأحبطته قصة “الانقلاب” غير المفهومة حتى الآن وسلسلة من الإقالات والاستقالات والتعديلات الوزارية وسوء إدارة أزمة الوباء.