أسلمة نصوص الأحوال الشخصية في مصر تعيق ممارسة الحقوق المدنية

أثار قانون الأزهر للأحوال الشخصية جدلا واسعا في صفوف الناشطين والمهتمين بالحقوق السياسية والاجتماعية في مصر حول تحول البلاد إلى دولة دينية بدلا من دولة مدنية قائمة على نظام المواطنة الذي يعتبر أساسيا في حقوق جميع مواطنيها وواجباتهم.
حملت تأكيدات أعضاء مجلس النواب المصري بأن قانون الأحوال الشخصية الجديد سوف يخرج من مؤسسة الأزهر رسالة واضحة بأن الحكومة استسلمت للضغوط التي تعرضت لها في الفترة الماضية من المؤسسة الدينية، ولم يعد بالإمكان الوقوف بوجه أسلمة العلاقات الاجتماعية.
وعكس التوجه البرلماني نحو الاكتفاء بالقانون الذي قدمه الأزهر، أنه تم الاستقرار على تجميد التشريعات المماثلة التي قدمتها منظمات حقوقية ونسائية وأعضاء داخل مجلس النواب، مع تجاهل القانون الذي تقدمت به الحكومة بعدما أثار جدلا واسعا.
ويرتبط استسلام الحكومة المصرية أمام ضغوط المؤسسة الدينية بأن الأزهر نجح في قيادة حملة شرسة ضد أي قانون يناقش القضايا الاجتماعية داخل الأسرة الواحدة لا يكون طرفا أصيلا فيه، وأعلن قادته أنهم لن ينظروا لأي تشريع تقدمه جهة أخرى.
الدولة الموازية
صحيح أن علاقة السلطة والأزهر ليست على ما يرام، لكن دوائر صناعة القرار في القاهرة لا تريد أن تفتح على نفسها بابا للنقاش المجتمعي والاستقطاب الديني والسياسي يصعب غلقه في توقيت بالغ الحساسية، بل ترغب في ترميم الجبهة الداخلية وغلق بؤر الصراع القائمة على أساس فقهي.
تتعامل الحكومة مع قانون الأحوال الشخصية باعتباره قنبلة موقوتة، لأنه ينظم الأمور العائلية، مثل الخطبة والزواج والطرق والنفقة والرؤية والولاية التعليمية، ويمس حياة جميع أطراف المجتمع من الصغير إلى الكبير بمختلف الشرائح.
ويمثل احتكار المؤسسة الدينية وضع التشريع المنظم للعلاقات الاجتماعية عائقا أمام الوصول إلى قانون عصري يحكم الموضوعات الأسرية بعيدا عن هيمنة الفقهاء ورجال الفتوى الذين كانوا سببا رئيسيا في إحداث أزمات اجتماعية كثيرة، لتعاملهم مع كل القضايا من منظور ديني بحت دون النظر إلى الاعتبارات الأخرى.
ويرى معارضون للهيمنة الدينية على العلاقات الأسرية أن عدم وضع قانون عصري للأحوال الشخصية من شأنه عرقلة القضاء على التمييز الديني في المجتمع والتقارب بين العقائد، لأنه لا يمكن في زمن الانفتاح أن يكون لكل ديانة تشريعها الخاص، بدلا من قانون واحد لمجتمع يفترض أنه ضد الطبقية.
يبني أصحاب هذا الرأي وجهة نظرهم على أن مدنية الدولة تتأسس على فرض قانون واحد على الجميع، كبداية لنشر ثقافة المساواة في الحقوق والواجبات، لا يفرق بين رجل وامرأة، أو مسلم ومسيحي، لأن عكس ذلك يمهد الطريق لأن يكون المجتمع أسيرا لرؤى وتوجهات وقناعات فقهاء كل ديانة.
وتتحجج المؤسسة الدينية بأن الدستور نص على أن تكون الديانة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وتعامل مع هذا النص باعتباره دليلا دامغا على أن يكون الأزهر وحده دون غيره مصدر القوانين التي تتطرق لمسائل دينية مع أنه مؤسسة ضمن الآلاف من المؤسسات المصرية، وليس دولة موازية.
وقال محمد أبوحامد الباحث في شؤون الأديان إنه لا مانع من عرض الموضوعات العائلية التي تتماشى مع الشريعة الإسلامية على المؤسسة الدينية لاستيضاح رأيها، لكن ليس من حقها التمسك بوضع كل نصوص القانون، لأنها غير مؤهلة لذلك ولا تمتلك خبرة سن التشريعات.
وأكد لـ“العرب” أن أسلمة نصوص أهم قانون مرتبط بالقضايا الحياتية مجازفة، لأن التركيبة المجتمعية الحالية والصاعدة تبحث عن مدنية العلاقة بين الناس، لا أن تكون رهينة رؤى دينية ضيقة، وبالتالي فإن التطبيق على الأرض سيكشف كم كان المجتمع بحاجة لتشريع معاصر ومتحضر.
ومعضلة الأزهر أنه يتعامل مع قانون الأحوال الشخصية من منظور النفوذ الديني الذي لا يقبل المساس به، وأن إقرار الحكومة لتشريع يتلامس مع مبادئ المدنية قد يتسبب بمرور الوقت في أن يفقد سطوته، ويتم تحجيم دوره بين الناس.

وكان قانون الأحوال الشخصية المطبق حاليا سببا في اقتحام الفقهاء ورجال الفتوى كل القضايا المجتمعية، ويتم اللجوء إليهم لحسم قضايا خلافية محل خلاف عائلي، ومع الوقت أصبح علماء الدين جزءا من طريقة تطبيق القانون، وتعتمد المحاكم الأسرية على آرائهم في الفصل في المسائل الأسرية.
بعكس التشريع الذي قدمته الحكومة وكان حاسما لأغلب القضايا المجتمعية محل الخلاف وهو ما اعتبرته المؤسسة الدينية خطرا على نفوذها ويقزم دورها في نظر الناس، لم يكن أمامها سوى التدخل والتصعيد ضد القانون الأقرب للمدنية لمجرد أنه اقتحم الحيز الخاص بها الذي يسمح لها بفرض هيمنتها على المجتمع.
وبمجرد التدقيق في دوافع الأزهر لتكون له الكلمة العليا في حسم القضايا الاجتماعية يتبين أنه يستند إلى نفس مبررات تيارات الإسلام السياسي، والتحجج بمصطلح أحكام الشريعة، ليضفي حصانة خاصة على تحركاته، ويفرمل الجهات التي تحاول إبعاده عن المشهد أو تقزم دور علمائه.
واعتبر محمد أبوحامد أن أزمة رجال المؤسسات الدينية أنهم غير متفقين على حسم الكثير من القضايا الاجتماعية التي لها علاقة بالدين، وما زالت بينهم خلافات عميقة، وقمة الخطورة وضع النصوص وفق رؤى يحوم حولها الجدل، وطرح القانون نفسه على أنه ديني كارثة أخرى.
وبغض النظر عن أحقية المؤسسة الدينية في أن يكون رأيها أساسيا بشأن المسائل الاجتماعية التي يتطرق إليها القانون، هناك موضوعات عائلية لم يعد مقبولا الفصل فيها من النصوص الشرعية فقط، لأن الزمان تغير والظروف نفسها لم تعد كما كانت عليه في عصور الجاهلية، وهي معضلة لم يستطع الأزهر تجاوزها بعد.
وهناك أيضا قضايا مجتمعية شائكة لا يمكن التعامل معها بنصوص قانونية دينية دون البحث في خلفياتها وأسبابها ومعالجتها بشكل عقلاني لا بتشدد أو انحياز. فالزواج العرفي مثلا أصبح ظاهرة لا يمكن إنكارها، لكن الأزهر ما زال يأخذ منها موقفا صارما يرفض تغييره، ويعتبر أي علاقة قائمة على السرية حرام شرعا.
قضايا شائكة
يرى أن الزواج العرفي خطيئة أصلا، وبعض شيوخه يضعونه في مرتبة “الزنا”، لكن رفع صفة المشروعية والوصم بالحرام عن المتزوجين سرا يحمل في طياته رسالة تحريض ضدهم قد يستثمرها أي طرف للتنكيل بهم أو التخلص منهم باعتبارهم ارتكبوا جريمة.
برهنت نظرة المؤسسة الدينية للزواج السري على انفصال علمائها عن الواقع لأن أغلب الرجال والنساء الذين لجأوا لهذا الخيار كانوا مضطرين تحت ظروف اجتماعية ونصوص قانونية ظالمة، فالمرأة المطلقة التي لديها أبناء إذا تزوجت علانية فذلك يعني إسقاط حضانتها عن أولادها وتخسر نفقتها من زوجها السابق.
المرأة التي تحصل على معاش شهري من والدها إذا وثقت زواجها تخسر ما تتحصل عليها من أموال المعاش، وأسباب أخرى كثيرة تقود إلى الزواج السري، وهو ما لم يعالجه قانون الأزهر للأحوال الشخصية، أو حتى تكون نصوصه رحيمة بالعلاقات الزوجية الخفية كي لا يكون أصحابها مجرمين بنظر المجتمع.
وبعيدا عن المبادئ الدينية التي تستند إليها المؤسسة الدينية في معالجتها للقضايا المجتمعية الشائكة، تظل هناك إشكاليات أخرى أكثر تعقيدا ترتبط بسطوة الفكر الذكوري عند عدد كبير من رجال الفتوى، والنظر بنوع من العنصرية إلى متطلبات واحتياجات وحقوق المرأة ما يؤسس لشقاق مجتمعي يفوق الحاصل حاليا.
ويبيح الكثير من علماء الأزهر للرجل الزواج من ثانية وثالثة ورابعة، وهو المعروف بالتعدد في الإسلام، دون اكتراث بحق الزوجة الأولى في أن تعترض أو يكون من حقها السماح لزوجها بالارتباط من أخرى أم لا، بدعوى أن الدين لا ينص على ذلك، واكتفى قانون الأزهر بإبلاغها لتحسم موقفها بين الاستمرار أو الطلاق.
ترى منظمات نسائية أن منح الرجل الحق المطلق في التعدد دون قيود انتكاسة أسرية في حد ذاتها، لأن ذلك يعني استمرار تعامل المجتمع مع المرأة حيث لا يتخطى دورها إشباع الرغبات والإنجاب وتربية الأبناء، في حين أن أحكام الشريعة التي نص عليها الدستور ويستمد الأزهر نفوذه منها تنص على المساواة بين الجنسين في كل شيء.
ومنح القانون الإسلامي للأزهر حول الأحوال الشخصية المرأة بعضا من الحقوق، مثل الخروج من بيتها دون استئذان وحرية العمل والطلاق للضرر وعدم المعاشرة الجنسية بدون رضاها، لكنه لم يدرك أن كل هذه الحقوق من البديهيات المجتمعية، بل إن النص عليها في تشريع يعكس العقم الفكري والجهل بالحد الأدنى من حقوق الإنسان.
ويفترض في أي تشريع عصري أن يتم النص على اعتبار المرأة شريكة أساسية في كل شيء، تتساوى مع الرجل في الحقوق والواجبات، لكن مشكلة رجال الدين على مختلف انتماءاتهم ينظرون للرجل باعتباره الأساس، والأنثى تقبع في المرتبة الثانية، بدليل إباحة تأديبها إذا أخطأت وطلبها في بيت الطاعة.
ويرى متخصصون في القضايا الاجتماعية أنه لا يمكن معالجة المسائل الشائكة بالمجتمع بنصوص تخاطب الماضي وتكرس للعادات والتقاليد والأعراف، لأن ذلك يقود إلى ارتفاع وتيرة التمرد بين الأجيال التي تعادي تحكم رجال الدين في حياتهم الشخصية، وتميل إلى الانفتاح والتحرر بعيدا عن أي قيود أو موانع شرعية.
وقالت عبير سليمان وهي محامية وباحثة متخصصة في قضايا الأحوال الشخصية والاجتماعية إن القانون العصري لا تضعه المؤسسة الدينية، لأنها تخاطب الماضي ولديها رؤية ضيقة، بعكس المتخصصين في القضايا الاجتماعية من علماء وباحثين ومفكرين وقضاة محاكم الأسرة، وهؤلاء أكثر إدراكا وفهما ووعيا لما يحتاجه المجتمع لإقرار قانون مدني إنساني بالدرجة الأولى.
وأوضحت لـ“العرب” أن تدخل جهات الفتوى في سن تشريع اجتماعي ضد مبادئ المواطنة التي أقرها الدستور، حيث نص على المساواة وعدم التمييز، في حين أن رجال الدين لا ينظرون إلى المرأة كمواطنة، بل تابعة ولها ولي ووصي على كل لحظات حياتها، وكان لا بد من أن تكون الحكومة هي صاحبة الحق في سن التشريع لأن نظرتها مختلفة وآدمية عن نظرة الفقهاء للمجتمع.
الزواج المشروط
كان المجتمع المصري الذي عانى لعصور طويلة من التشدد في حسم المسائل العائلية يترقب لحظة الإعلان عن نسف قانون الأحوال الشخصية القديم لإقرار آخر يحجم الظواهر المجتمعية التي نشأت بسبب غياب المرونة في تطبيق الشرع.
ويشكل الطلاق الشفهي مثلا خطورة بالغة على استقرار المجتمع، وهناك دول إسلامية استبدلته بالطلاق الموثق، أو اشترطت وقوعه في وجود القاضي مثل السعودية، لكن الأزهر ما زال يتمسك به في قانون الأحوال الشخصية، واشترط وقوعه حسب النية، دون أن يحدد الآلية التي يمكن من خلالها حسم مسألة النية.
وأي رجل يطلق زوجته شفهيا يستطلع رأي المؤسسة الدينية في مدى وقوعه من عدمه، بعدما يحكي تفاصيل الأزمة التي استدعت نطقه بعبارة “أنتِ طالق”، وهنا يفتي رجل الدين بأنه طلق زوجته بالفعل أم لا، أيّ أن الأزهر احتكر التحكم في وقوع الطلاق الشفهي ليطبق الخناق على مصائر ملايين من العائلات ضمن أدوات النفوذ.
ورغم قناعة الأزهر بأن الزواج العرفي حرام وخطيئة لمجرد أنه غير موثق أو معلن، وتأكيد أن الزواج الشرعي فقط هو الذي تتوافر فيه صفة الإشهار والتوثيق بعقد مكتوب، لكنه ناقض نفسه بوقوع الطلاق الشفهي “غير الموثق”، لا لشيء سوى لأنه يتعامل مع دعوات الطلاق الموثق باعتبارها دعوات متحررة.
أمام هذا التشدد رفضت المؤسسة الدينية أي تغيير في شكل وطريقة عقود الزواج التقليدية، مهما كانت مقدمة للتوافق الفكري والحد من الصراعات العائلية، بدعوى أن وضع اشتراطات من جانب الرجل والمرأة على أيّ منهما، لا يجوز الحياد عنها، هو زواج مشروط وغير شرعي، رغم أن تحديد الحقوق والواجبات على كل طرف من البداية يكرس الاستقرار الأسري.
وتسود داخل المجتمع المصري حالة تمرد بين شريحة ليست قليلة ترفض الاستسلام للتقاليد الدينية في مسائل الزواج، وهي إن كانت ظاهرة إيجابية لكنها خطيرة وقد تتسبب في اتساع دائرة الشقاق المجتمعي والعصيان على الأعراف للهروب من السطوة الدينية، فمثلا أصبحت هناك عقود زواج تنص على عدم وقوع الطلاق الشفهي.
ويبدو أن أسلمة النصوص المنظمة للعلاقات العائلية تخدم المؤسسات الدينية أكثر مما تصب في صالح استقرار المجتمع، فالأزهر يريد تمرير قانونه الخاص بالمسلمين، والكنيسة تتمسك بأن يكون هناك قانون للمسيحيين، مع أن التلاحم بين العقائد واستقطاب الأجيال الصاعدة لتكون أكثر التزاما بالقوانين الاجتماعية وفرض العدل والمساواة دون قيود لن تتحقق بتوسيع نفوذ النصوص الدينية على حساب التعايش وفق أسس عصرية.