تعليم الأطفال التفاوض يساعد على سد الفجوة في الأجور بين الجنسين

كثيرا ما يحضر التفاوض في مواقف الحياة اليومية حول أمور متفاوتة الأهمية، ولكن اكتساب هذه المهارة منذ مراحل الطفولة يجعلها مفتاحا للنجاح في الحياة المهنية ومجالات الأعمال.
تتطلب العديد من مواقف الحياة اليومية التفاوض، مثل عمليات البيع والشراء والصفقات التجارية وطلب زيادات في الراتب، ومعظم الناس لا يخشون التفاوض بطرق مختلفة لطلب ما يرغبون فيه من غيرهم، وليسوا هم أيضا في حل من التنازل عن بعض شروطهم ليصل الجميع إلى مرحلة الرضاء والتوافق الذي يخدم مصالحهم.
وفي ضوء ما هو معروف من أن مهارات التفاوض تشكل أحد أكثر العوامل التي تُنبئ بمستقبل الأطفال، بدءا بمواقف الحياة المختلفة وتعاملهم اليومي مع زملائهم في مدرستهم الابتدائية ثم في الجامعة، وبعد ذلك خلال مسيرتهم المهنية، فإن التدريب المبكر للأطفال على فن التفاوض واتخاذ القرارات الصحيحة يساعدهم على تنمية ثقتهم في أنفسهم وقدرتهم على التعامل مع العالم من حولهم، بغض النظر عن المستوى الاقتصادي والاجتماعي للأسر التي ينتمون إليها.
ويتعلم الأطفال كيفية التعامل في جميع المواقف من خلال آبائهم، لذا فإن السماح لهم بأن يشعروا بالقدرة على المساهمة في اتخاذ القرار بدلا من الضغط عليهم وإجبارهم على تقبل قرارات آبائهم، وذلك عن طريق ما يمكن توصيله لهم من رسائل، عبر الشرح لهم كيف يمكنهم تحقيق نتائج مختلفة عما وصلوا إليه إذا اتبعوا خيارات مختلفة في قراراتهم، وما يمكن أن يجنوه من فوائد من تلك الخيارات.
ومن المرجح أن تساعد المشاركة في صنع القرار الأطفال على أن يصبحوا مستقلين، بدلا من مجرد أفراد يطيعون دون مجال للمناقشة.
صناعة القرار
وقالت شارنا أولفمان أستاذة مختصة في علم النفس في جامعة بوينت بارك في بيتسبرغ “يمكن أن يقرر الأطفال الصغار ما إذا كانوا سيتناولون الإجاص أم التفاح. ويعتبر الطفل في المرحلة الابتدائية مستعدا للمشاركة في اختيار الأنشطة غير الدراسية”.
ويقترح خبراء تشجيع الأطفال على التفاوض عند مناقشة النشاط الذي يحبون القيام به مع أفراد الأسرة، أو كيف يمكن أن يتناسب هذا النشاط الجديد، الذي يريدون تجربته مع الجدول الزمني المتاح لهم. كما يمكن فتح مفاوضات تتعلق بالأحداث اليومية، مثل ما يفضلون تناوله على وجبة الإفطار والعشاء، أو الفيلم الذي يرغبون في مشاهدته مع أشقائهم.
وبمجرد أن يستطيع الأطفال الاستماع والتحدث، يستفيدون من سماع الأساس المنطقي في ما يراه آباؤهم مهما.
وأظهر عدد كبير من الأدلة العلمية، أن العامل المؤثر في تحسين قدرات الفتيات على التفاوض، لا يتمثل في سماعهن بشكل سلبي لمن يحدثهن عن شيء معين، أو إسداء النصائح إليهن، وإنما في ما يمكن تسميته “انخراطهن في مفاوضات جيدة”، وهي تلك التي يكون التفاوض فيها متبادلا، أي أن يكون في صورة طرح وجهات نظر ورد بالتناوب بين الطرفين، ما يتطلب من كل منهما أن ينصت لما يُقال إليه وأن يرد عليه كذلك.
التفاوض يشكل أحد العوامل المساهمة في نجاح الأطفال، بدءا بمواقف الحياة المختلفة ووصولا إلى مسيرتهم المهنية
وكشفت دراسة بحثية حديثة نشرت في مجلة “سيكولوجي توداي” كيف أن تعليم الأطفال كيفية التفاوض، يمكن أن يؤثر على فجوة الأجور بين الجنسين في البيئات المهنية.
ونظر باحثون من كلية بوسطن وجامعة نيويورك في كيفية تنوع أساليب التفاوض بين الفتيان والفتيات، الذين تتراوح أعمارهم بين أربع وتسع سنوات، واعتمادا على ما إذا كان الشخص البالغ الذي كانوا يتفاوضون معه رجلا أم امرأة.
وفي الدراسة، طُلب من الأطفال إكمال سلسلة من المهام البسيطة، وعندما انتهوا منها، قيل لهم إنهم سيحصلون على ملصقات كمكافأة لإنجازهم عمل جيد.
وسأل الباحثون الأطفال عن عدد الملصقات التي يعتقدون أنهم يستحقونها، فعندما يطلب الطفل أكثر من ملصقين، يقال له إن ذلك عدد كبير جدا، ويُمنح فرصة أخرى للتفاوض.
ولاحظ الباحثون بين الأطفال الذين تبلغ أعمارهم حوالي 8 سنوات، كيف تغيرت طلبات الفتيات اعتمادا على ما إذا كان الشخص الذي يسألهن رجلا أو امرأة. فإذا كانت امرأة تطلب الفتيات المزيد من الملصقات. لكن إذا كان رجلا فإنهن يطلبن ملصقات أقل. بالإضافة إلى ذلك، تطلب الفتيات دائما ملصقات أقل من الفتيان لكن طلبات الفتيان لم تتغير بناء على جنس الباحث.
تفاوض النساء
كانت هذه النتائج متسقة مع نتائج أبحاث الأخرى، ومن بينها دراسة وجدت أن احتمال تفاوض النساء مع رجل تكون أقل مقارنة مع ما إذا كان المفاوض امرأة أخرى.
وتكمن أهمية هذه الدراسة في أن نتائجها كشفت أن تعليم الفتيات منذ مراحل مبكرة مهارات التفاوض، يمثل إستراتيجية استباقية ينتج عنها في النهاية التوزيع العادل للأدوار بين الجنسين في المجتمع وتحسين خيارات المعيشة التي تصنع النسيج الاجتماعي لحياتهما معا.
وطُرحت نظريات مختلفة في هذا الصدد، تؤكد أن سد الفجوة المستمرة في الأجور، يتطلب من النساء تعلم فنون التفاوض والإقناع، وهو السبيل الأمثل للقضاء على مشكلة التفاوت في الأجور بين الجنسين.
ويرى لي ميللر الأستاذ في جامعة جنوب كاليفورنيا، أن المرأة عموما لا تتفاوض بخصوص الأجر في الكثير من الأحيان، بل تقبل أول عرض يقترحه عليها أرباب العمل.
التفاوض يعدّ من مفاتيح النجاح الأساسية في الحياة المهنية ومجالات الأعمال، ومن غير المستبعد أن يؤدي إتقان النساء للتفاوض إلى سيناريو مستقبلي كامل، يلعبن فيه دورا مطابقا لدور الرجال في الحياة العامة
وأكد ميللر الذي ألف كتابا حمل عنوان “دليل المرأة إلى التفاوض بنجاح” بمعية ابنته جيسيكا ميللر، على أن النساء غالبا ما يقبلن العرض الأول الذي يقترحه عليهن صاحب المؤسسة من دون تفاوض، وبعد أن يعملن على إثبات جدارتهن، يطالبن بالترقية، مشددا على أنه في حال كانت البداية متواضعة، فإن الترقي سيكون متواضعا أيضا.
ورجح ميللر بحسب خبرته التي تزيد عن 30 عاما في مجال الموارد البشرية، أن عدم التفاوض سيجعل رب العمل يتساءل “إذا لم يفاوض الموظف لصالحه الخاص، فهل سيفاوض لصالح الشركة؟”.
ولفت ميللر إلى أن التفاوض يرتبط بميل النساء إلى تصديق كل ما يقال لهن، وتحديدا عبارة “العرض غير قابل للنقاش”، رغم أن العرض الأول نادرا ما يكون الأفضل، في المقابل يحاول الرجال معرفة الكثير من التفاصيل الأخرى.
وقال “في اللحظة التي تقول المرأة إنه لا يمكنها الانتقال إلى عمل آخر بسبب أسرتها أو إعجابها بعملها، فهذا يعني أنها تقلل من قدرها”.
وأضاف متسائلا “إذا كان رب العمل يعرف أن المرأة لن تترك وظيفتها، فلماذا عليه أن يدفع لها المزيد من المال؟”.
وهنالك تحديات تواجهها النساء ليست لها علاقة بأمور خارجية، ولكنها تتعلق، أكثر بالشعور الداخلي بعدم الثقة في النفس والتوقعات المتدنية بشأن قدرتها على تحقيق درجات عالية من النجاح في العمليات التفاوضية.
ويبدو أن التفاوض يعدّ من مفاتيح النجاح الأساسية في الحياة المهنية ومجالات الأعمال، ومن غير المستبعد أن يؤدي إتقان النساء للتفاوض إلى سيناريو مستقبلي كامل، يلعبن فيه دورا مطابقا لدور الرجال في الحياة العامة.