برعمة جوري تزهر في تونس

لست متشائمة، ولكنني على دراية أن ورد الجوري لا ينمو إلا في البيئات المشرقة، وكذلك الإبداع، يحتاج إلى بيئات خصبة تحتضنه وحكومات عادلة ترعاه.
الأربعاء 2023/12/13
أداء حركي محترف

تصدر اسم طفلة تونسية حديث مواقع التواصل الاجتماعي، بعد انتشار مقطع فيديو لها على نطاق واسع، وهي تؤدي وصلات مسرحية تمثيلية داخل فصلها الدراسي، وأمام حضور معلمتها وزملائها، وتجسد بحماسة وأداء حركي محترف، شخوصا وأدوارا متعددة لقصة “الأسد المغرور والأرنب الذكي” المأخوذة من مختارات الكتاب الشهير “كليلة ودمنة” لعبدالله بن المقفع.

لم تتجاوز جوري تبيني السادسة من عمرها، ومع ذلك فقد بدت متميزة في الأداء أشبه بممثل محترف على الخشبة وخصائصه الخطابية والتعبيرية، وعدة أمور أخرى مثل الثقة والجاذبية، التي تعتمد بشكل كبير على تعبيرات الوجه وحركات الجسد، والتمثيل الذهني والحسي، والوعي بكل مفردة ودلالتها في أحداث القصة، لتنقل إلى المشاهدين نوعا من الشعور بالاستنارة أو البصيرة المتيقظة والخلابة والقدرة على التأثير والإقناع، وكلها أدوات فنية وخصال إبداعية أثرت في الناس واستحوذت على انتباههم.

عندما أنظر إلى الطاقة الإبداعية لجوري تبيني، فإن أول انطباعاتي عنها، هي أنها تتمتع بدرجة عالية من الذكاء، ولديها موهبة فنية تجذب الجماهير إليها، وتشعرهم بأنها تمتلك الصفات التي تؤهلها لتكون ذات شخصية جذابة ومؤثرة في مجتمعها.

ربما تفوق طموحات الطفلة جوري كل توقعاتي، لكنني أعتبرها نموذجا من السحر البشري الذي لا يمكن أن ينضب من تونس، وبغض النظر عن المكان الذي ولدت فيه جوري والخلفية الاجتماعية أو الاقتصادية، فهي واحدة من حملة مفتاح مستقبل قرطاج.

لكن تنمية مواهب الأطفال ورعايتها لا تعتمد فقط على ما يكتسبه المرء من المدرسة، بل على العديد من التجارب والأنشطة والألعاب التي تحفز على التفكير، غير أنها لا تؤخذ بعين الاعتبار في أغلب البيئات الأسرية والمدرسية والاجتماعية في معظم المجتمعات العربية.

إذا كانت المناهج المدرسية تسعى إلى تدريب أذهان التلاميذ، وتعزيز قدراتهم المعرفية، فإن أنشطة مثل الرسم والمطالعة والتمثيل يمكن أن تساهم بقدر كبير في هذه العملية، فهي تساعد على اكتشاف قدراتهم وميولهم واستعداداتهم الفطرية، وتعمل أيضا على صقل مواهبهم وتنميتها، وجعلهم أكثر قدرة على مواجهة مختلف المواقف الحياتية، إضافة إلى أنها قد تساعدهم على تكوين علاقات اجتماعية ناجحة.

طرق التفكير الجيد مهارة يمكن أيضا تعلمها والتدرب عليها منذ الصغر، وحين تتيح للطفل فرصة لممارسة النشاط المسرحي، وتجسيد أدوار وشخصيات مختلفة، فإن ذلك يمكنه من استخدام مفردات حسية وحركية تعبر عن “هو” أو “هي”، أو “نحن” و”أنتم” بدلاً من “أنا”، ويمتص المعيار الأخلاقي وكأنه قطعة من الإسفنج، ما يقلل التعصب لديه والعنصرية ضد الآخرين ويعزز هذه القيم وينظمها لديه، وقد يؤدي هذا أيضا إلى جعله يتعرف على نقاط ضعفه وقوته ويزيد ثقته في نفسه، وهذا في حد ذاته اكتشاف لقيمته ولما يمكن أن يطوره في نفسه ويحققه لصالح مجتمعه.

لكن قد يبدو ثمن تنمية مثل هذه المواهب، أحيانا باهظا للغاية في أسر فقيرة تعيش في جهات مهمشة ومنسية، وفي دول تموج بالأزمات والتحديات الاقتصادية. ومن الواضح أن من يصلون إلى مستويات فائقة من الأداء، هم على الأرجح أولئك الذين تُرعى قدراتهم الإبداعية، بشكل صحيح، وفي دول تتبنى مبدأ تكافؤ الفرص للجميع.

لكن للأسف، الملايين من الأطفال في أرياف تونس ومعظم القرى المعزولة والجهات وحتى في المجتمعات العربية الأخرى، يعانون من وجود كوابح تمنع إطلاق قدراتهم الإبداعية، ومعظمهم لم يسبق لهم مشاهدة عروض مسرحية وسينمائية أو المشاركة في نواد ثقافية، والنتيجة معادلة صفرية، تتساوى فيها مواهب طرف مع غيابها لدى طرف آخر، لتصبح النتيجة في النهاية صفرا للجميع. لست متشائمة، ولكنني على دراية أن ورد الجوري لا ينمو إلا في البيئات المشرقة، وكذلك الإبداع، يحتاج إلى بيئات خصبة تحتضنه وحكومات عادلة ترعاه.

18