المصرية جيلان صلاح: معاداة الإبداع سببها التيارات الدينية

الفن حياة وتجدد وجمال، ويمثل استدعاء قيم الفن الجميل ومزجها بالسرد طرحا مُغريا للكثير من الروائيين العرب، خاصة الباحثين منهم عن ثيمات مُغايرة لما هو معتاد، والساعين إلى كسر نمطية الحكي الروائي والفكاك من قوالب مُعتادة ومكررة. وهذا ما تحاوله الروائية المصرية جيلان صلاح. “العرب” كان لها معها هذا الحوار حول عوالمها الروائية المليئة بالفنون.
تحاول جيلان صلاح خلط الفن بالسرد من خلال استدعاء رموز وألوان موسيقية وسينمائية مبهرة والسعي لنسج حكايات جديدة ماتعة لتؤكد أهمية الفنون الإبداعية. وسعت عبر روايتها الأحدث “بوجارت.. اعزف لي لحنا كلاسيكيا”، الصادرة عن دار “ضمة” للنشر بالقاهرة، إلى تقديم حكاية جديدة تكشف فيها مشاعر البشر وتفاعلهم مع فن السينما والموسيقى العالمية في مواجهة مشكلات الحياة.
اختارت جيلان الممثل الأميركي همفري بوغارت (1899ـ 1957) كرمز مُحبب للإنسان المكافح من أجل قيم الفن لتُعيد استخدامه في روايتها بما يقدم تصورات جديدة للحياة، تحاول فيها تجاوز الواقع المحيط في المجتمع وما يسوده من جهل وتطرف وأحادية فكرية وازدراء للفنون والقيم الجمالية.
خواء المجتمع وتناقضاته
تؤكد جيلان صلاح لـ”العرب” أنها كتبت روايتها لأنها مرت بمرحلة مظلمة في حياتها وأرادات التعبير عن آلام البشر المحبين للفنون، الذين يشعرون بأوجاع الخواء الاجتماعي المحيط بهم.
وتقول إنها عندما تكتب شخصية ما فهي تتخيل تاريخها وتفاصيل تفاصيلها من الميلاد وحتى الممات، وهمفري بوغارت بدا أكثر ممثل يليق ببطل حكايتها “وجيه سيد مرسي”، لأن هذا الفنان الذي قام ببطولة فيلم “كازابلانكا” يعد أيقونة من أيقونات السينما الأميركية الكلاسيكية، ويمكن لشخص حالم أن يعتبره بطله المفضل ويحذو حذوه.

جيلان صلاح: عندما أكتب شخصية ما أتخيل تاريخها وتفاصيلها من الميلاد حتى الممات
وتضيف أن طبيعتها تُحتم عليها عند البدء في أي مشروع إبداعي جديد أن تقوم باستدعاء وتحضير قائمة بالأغاني والموسيقى القادرة على استدعاء الشخصيات، فهي تؤمن أن لكل شخصية إنسانية لونا موسيقيا محددا.
وتوضح لـ”العرب” أنها شعرت عند كتابتها الرواية الأحدث أن موسيقى الجاز والبلوز وبعض المقاطع في الأفلام العالمية المعروفة ضرورية للتعبير عن مشاعر وأحاسيس الشخوص الرئيسيين في العمل، وستقوم يوما ما بنشر كافة المقاطع والأغاني التي استحضرتها عند الكتابة، فتلك الأغاني تُهيّئ الذهن للمبدع للانغماس في الحكاية التي يرويها.
تبدأ الرواية بعبارة غريبة تقول فيها “في عيد ميلاده الستين، قرر الأستاذ وجيه أن يكتب مذكراته”، ثم تتوالى الحكايات التي يقدمها الراوي المُتيم بالسينما والموسيقى في محاولة منه لاستعادة زمن جمالي يشعر أنه ولّى.
وتعترف الروائية المصرية بأنها كتبت العبارة الأولى في ملف خاص على كمبيوترها الشخصي، وتركتها لفترة طويلة ثم شعرت يوما ما برغبة الشخصية المتخيلة في الحكي ففتحت لها أبواب التدفق عبر الكتابة لتولد روايتها.
تحاول الرواية رسم الواقع المُجتعي الذي نعيشه كعرب ولا نشعر بقسوته، حيث تحبس الروح في عُلب معدنية، ويقف البطل المحب للفنون في مواجهة المدينة القاسية التي تنهش الأجساد وتمثل بها بوجوهها المتخفية وراء عباءة التقوى والتقرب إلى الله.
يرى البطل أن الموسيقى هي السلاح الذي يُمكن أن يواجه كذب الأقنعة واتساع الكراهية، ويمتلك قطا صغيرا جميلا يراه رمزا للرومانسية يُسميه بوغارت، على اسم المبدع الجميل الذي يُعجب به.
وتقوم زوجة البطل بتسميم القط ليموت، فيأخذه صاحبه ويُحنطه ويضع في عينيه حجري كوارتز، ورغم أن القط في المخيلة الشعبية يمتلك سبعة أرواح إلا أنه يبدو هنا بروح واحدة، ويبقى البطل حريصا للحفاظ عليه ليستعيد واحدة من أرواحه السبع ليعود إلى الحياة، ولا يجد سوى الموسيقى لتحفيزه على العودة.
تشير الروائية الشابة إلى أن المجتمعات العربية الآنية لم تعد تهتم بالموسيقى ودورها كما ينبغي، أو كما كان الأمر عليه في الماضي، لأن التيارات الدينية نجحت خلال العقود الأخيرة في تغيير نظرة الناس العامة تجاه الإبداع، خاصة فن الموسيقى والسينما، فلم تر فيه سوى اللهو والتغريب ومعاداة الأخلاق ووصل الأمر بالبعض حد إنكار التراث الموسيقي.
وتلفت إلى أنها تتمنى أن تشهد صحوة فنية وأدبية تعيد للإبداع مكانته واحترام المجتمع له، باعتباره دافعا للتحضر ومُعينا على الرقي والتطور.
لقد أحبطها الواقع المحيط بما يحمله من استقطاب وتناحر سياسي واستغلال للدين، ومتاجرة بالمثل الأخلاقية ومعاداة للثقافة والفنون، وما تزامن مع ذلك من احتضار حقيقي للرومانسية، وترى أن الثقافة والفنون أدوات مقاومة مثلى ضد مادية المجتمعات، وفن السرد يُمكن أن يُشكل جرس تنبيه للمجتمع لاستعادة وعيه وتحضره.
وتتصور صلاح أن المواهب الحقيقية تعاني كثيرا في الوصول إلى قلوب الشغوفين بالتعرف على نتاج التجارب الإنسانية أو عمق اللغة المكتوبة، قائلة “في عالم يُقاس فيه نجاح المرء في أي مجال بعدد متابعيه على وسائل التواصل الاجتماعي، أشك أحيانا في المبدعين الذين يتصدرون المشهد ومدى جدية تعاملهم مع ما يقدمون للمتلقين”.
استعادة التحضر

المواهب الحقيقية تعاني كثيرا في الوصول إلى قلوب الشغوفين
تكشف الروائية لـ”العرب” أنها عندما تقارن بين حب أقاربها من الأجيال الأقدم للفن في العموم، والأجيال التي أتت بعدهم وسافر عدد كبير منهم إلى دول عربية، أو حتى انعزلوا في غيتوهات ضيقة في بلاد أوروبية وأميركية، تشعر بمدى الهوة السحيقة التي تسببت فيها التيارات الإسلامية المعادية للفن والأدب.
وتتابع “أما الأجيال الصغيرة فأجد تعاملهم مع الفن بمثل ما سبق ذكره، الكاتب الأكثر شعبية بالضرورة الأفضل، كما هو المطرب الأكثر شهرة، والممثل صاحب أكبر عدد من المتابعين”.
تؤكد صلاح أن الحل يكمن في ضرورة أن تتم محاربة الفكر بالفكر، والظلام والتعصب بالمزيد من الفن والإبداع الجريء والمستقل والمنتصر للجمال.
وحول كيفية اختيارها لعناوينها، توضح أنها تعاني كثيرا في اختيارها، وتأتي العناوين في نهاية مرحلة الكتابة، وتبدأ بعنوان مؤقت لا يلبث أن يتغير مع انطلاق الكتابة، وفي بعض الأحيان تضطر إلى إشراك المقربين لها للتشاور واختيار العنوان المناسب.
نشأت صلاح في بيت يحب الثقافة والفن، وكانت رحلاتها في مرحلة الطفولة تتنوع بين معارض الكتاب والمتاحف والمهرجانات السينمائية. وساعدها تعلمها في مدرسة راهبات على التعرف براهبات أيرلنديات محبات للأدب والرواية.
وتذكر أن لغتها الأدبية تشكلت في البداية مع قراءة مكثفة لروايات تشارلز ديكنز وديستوفيسكي، ثم الإطلاع على كتابات نجيب محفوظ ويحيي حقي ويوسف إدريس وعبدالرحمن منيف، وساهم اهتمامها بالسينما العالمية في تشبعها بسير العباقرة والنجوم الكبار، أمثال المطرب كيرت كوبين، والشاعرة إميلي برونتي، والفنانة مرالين مونرو، والشاعرة الأميركية مايا أنجيليو، والفنان الأميركي ريفر فينكس.
وألهمها الشاعر المصري المتمرد أمل دنقل الكثير من التصورات اللغوية العميقة التي شجعتها على ممارسة التجريب بشكل أوضح في اللغة.
وتلفت إلى أن خطواتها القادمة هي مواصلة الإبداع، ولا تُحدد طريقا واضحا، ولا تفكر في مشروع بعينه، لكنها تؤمن بأن الإبداع ضرورة والسحر والجمال كله في رواية وحكاية تستحق أن تروى.
وجيلان صلاح سلمان روائية وشاعرة ومترجمة، حصلت على بكالوريوس الصيدلة عام 2011، وصدرت لها مجموعة قصصية بعنوان “هكذا تكلمت لا لوبا”، ولها مقالات نقدية وقصص منشورة في عديد من الصحف والمواقق العربية. وحصلت على المركز الأول في جوائز القصة للمجلس الأعلى للثقافة بمصر عام 2016، ولها ديوان شعر باللغة الإنكليزية بعنوان “شجن محطات العمل".