هل يقدر المشيشي على تحريك ملف الجمعيات المشبوهة

تصاعدت الضغوط على الحكومة التونسية برئاسة هشام المشيشي من أجل التحرك ضد الجمعيات المشبوهة التي تشكلت في البلاد بعد أن أعلن عدد من البرلمانيين عزمهم لتشكيل لجنة تحقيق في تلك الجمعيات في أعقاب مناوشات شهدتها العاصمة تونس بسبب اتحاد علماء المسلمين وتزايد المخاوف من اختراق مؤسسات سيادية من قبل منظمات وجمعيات أجنبية.
تونس - فتحت معركة الحزب الدستوري الحر المعارض بقيادة عبير موسي ضد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع تونس الباب بمصراعيه أمام تحريك ملف الجمعيات المشبوهة في تونس.
وفي تحرك بدا لافتا في توقيته ومثيرا للعديد من نقاط الاستفهام، أعلن برلمانيون عن استعدادات وتحركات لتكوين لجنة برلمانية من أجل التحقيق في الجمعيات المشبوهة التي تشكلت بعد ثورة 14 يناير 2011.
وتواجه العديد من الجمعيات تهما بدعم الإرهاب أو تلقي أموال بطريقة غير قانونية، إلا أن ذلك لم يحفز الحكومات المتعاقبة منذ 2011 على المضي قدما في تحريك هذا الملف ما يجعل حكومة هشام المشيشي اليوم أمام تحدي معالجته رغم أن سقف توقعات المتابعين لهذا الملف ليس بالمرتفع نظرا لارتهان هذه الحكومة لتحالف من الأحزاب قد يرفض أي مساس بهذه الجمعيات.
شرارة المعركة
أطلق الحزب الدستوري الحر منذ العام الماضي حملة ضد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين فرع تونس، وبعد اعتصام دام لأسابيع حقق خلالها هذا الحزب بعض المنجزات من خلال تبني رئاسة الحكومة لملف اتحاد علماء المسلمين، أخذت المواجهة منحى آخر بعد أن اندلعت مناوشات بين مؤيدين لوجود هذا الاتحاد وأنصار الدستوري الحر.
وأعادت تلك الأجواء التي بدت وأنها تهيئ البلاد إلى مأزق يصعب الخروج منه ملف الجمعيات المشبوهة إلى الواجهة، حيث عبر العديد من الناشطين والقوى والنخب عن امتعاضهم من وجود تلك الجمعيات على غرار المرصد الوطني للدفاع عن مدنية الدولة الذي عبر عن رفضه صراحة لتواجد اتحاد علماء المسلمين وللدورات التي يقوم بها.
وفيما لم تنجح الحكومات المتعاقبة منذ الثورة في معالجة هذا الملف الشائك حيث اقتصرت تحركاتها على محاولات محتشمة على غرار عملية حل 157 جمعية في العام 2016 في ذروة مواجهة تونس لمنابع التطرف، نجحت معركة الدستوري الحر في إثارة هذا الملف مجددا بشكل أحرج القريبين سياسيا من هذا الحزب الذي يعد من أحزاب العائلة الوسطية التي تحمل لواء الدفاع عن مدنية الدولة في تونس.
ودفع هذا الوضع الذي لم يعد يحتمل في ظل تكاثر الجمعيات التي أخذت عناوين مختلفة لنشاطاتها وأهدافها برلمانيين تونسيين للتحرك من أجل استحداث لجنة برلمانية تحقق في هذه الجمعيات.
وأعلن النائب حسونة الناصفي قبل أيام عن توافق ثلاث كتل نيابية واستمرار المشاورات مع بقية الكتل من أجل تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في ملف الجمعيات المشبوهة في البلاد على إثر ما شهدته تونس منذ فترة من أحداث بسبب باتحاد علماء المسلمين.
وضمت هذه الكتل كتلة الإصلاح الوطني (15 نائبا من أصل 217) وتحيا تونس (10 نواب) والكتلة الوطنية (9 نواب).
وأفاد النائب مبروك كرشيد بوصول عدد النواب المتوافقين حول ضرورة المضي قدما في مطلب تشكيل لجنة للتحقيق في تلك الجمعيات إلى 54 نائبا.
وتابع كرشيد في تصريح لـ”العرب” أن “مطلبنا سنقدمه خلال الجلسات القادمة، وهدفه التحقيق في عدد من الجمعيات المشبوهة على غرار جمعية الإسلام والديمقراطية لرئيسها رضوان المصمودي (قيادي في حركة النهضة)، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ليوسف القرضاوي وغيرهما من الجمعيات المشبوهة”.

وأضاف البرلماني التونسي أن “اللجنة ستضمن نتائجها في تقرير عند نهاية أعمالها وتتوجه به إلى القضاء”، داعيا رئيس الحكومة هشام المشيشي والرئيس قيس سعيد إلى “التعامل إيجابيا” مع مقترحات النواب من أجل مصلحة البلاد.
وتعرف تونس انتشارا عشوائيا للجمعيات التي يثير تواجدها تساؤلات عديدة حول مصادر تمويلها والأنشطة الحقيقية التي تقوم بها، حيث ترددت كثيرا في السنوات التي تلت ثورة 14 يناير 2011 اتهامات لبعضها بتمويل الإرهاب والقيام بأنشطة دعوية تحت غطاء العمل الجمعياتي خاصة أن تلك الفترة شهدت عدة عمليات تسفير للشباب التونسي إلى بؤر التوتر على غرار سوريا والعراق، فيما تنشط العديد من الجماعات الإرهابية في الجبال التونسية.
وبلغ عدد الجمعيات الناشطة في تونس 23.676 جمعية إلى غاية العاشر من نوفمبر الماضي وفقا لإحصائيات نشرها مركز الإعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات التابع لرئاسة الحكومة على موقعه الإلكتروني.
وبلغ عدد الجمعيات الأجنبية الناشطة في تونس 200 جمعية وهو رقم يثير مخاوف الأوساط السياسية التونسية لاسيما في ظل غياب مكافحة جدية للفساد لتعزيز مراقبة مصادر تمويل تلك الجمعيات ومدى احترامها للقوانين التونسية.
مخاوف الاختراق
أثار كشف الحزب الدستوري الحر منذ أيام عن تعاون البرلمان التونسي مع مساعدين تمولهم منظمات أجنبية على غرار “المعهد الديمقراطي الوطني” المقرب من الحزب الديمقراطي الأميركي جدلا واسعا، وأحيا المخاوف من اختراق المؤسسات السيادية تحت غطاء العمل الجمعياتي والمنظماتي.
وحاول العديد من النواب البرلمانيين البعث برسائل طمأنة للتونسيين من خلال نفي أي خطورة تكتسي تعاونهم مع تلك المنظمات مبررين ذلك بحاجتهم إلى مشورة من هؤلاء في العديد من المجالات على غرار المجال القانوني، لكن ذلك لم يزل المخاوف.
ولم ينف المحلل السياسي لطفي العماري مخاوفه من خطورة ما تمارسه العديد من المنظمات، قائلا “بصرف النظر عما كشفه الدستوري الحر، هناك اختراق واضح للمؤسسات التونسية، وهذا ليس وليد اللحظة، المنظمات الأجنبية اخترقت المجلس التأسيسي وساهمت في صياغة الدستور التونسي ومنع إدراج العديد من الفصول فيه”.
وأردف العماري لـ”العرب” أن “أخطر ما يحدث في تونس هو وجود جمعيات ومنظمات أجنبية أو ممولة أجنبيا وتنشط بصفة عادية، لأن تلك الجمعيات تضع العديد من الخطوط للفاعلين في المشهد التونسي سواء بشأن التشريعات والقوانين أو السياسات وغيرها”.
وبالرغم من الضغوط التي تكرسها العديد من الأطراف الفاعلة في المشهد السياسي التونسي غير أن الشكوك تُخامر المتابعين من إمكانية تحرك الحكومة ضد الجمعيات المشبوهة وذلك بسبب ارتهانها إلى حزام سياسي يضم أحزابا هي في مرمى اتهامات خصومها بتلقي تمويلات أجنبية والتعامل مع هذه الجمعيات.
وشدد الإعلامي لطفي العماري على أنه من الصعب أن تتحرك حكومة المشيشي ضد الجمعيات المشبوهة لأن رئيس الحكومة يدرك أن تحركه ضد بعض الجمعيات يعني تخلي حزامه السياسي والبرلماني عنه لارتهانه لتلك الجمعيات ما يؤدي إلى سقوط الحكومة.
وتابع العماري “رأينا مثلا حركة النهضة كيف نزلت بكل ثقلها للدفاع عن جمعية القرضاوي (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) لأن لديها مصلحة في بقاء تلك الجمعية، حكومة المشيشي لا تتمتع بالقوة التي تسمح لها بفتح ملفات بمثل هذه الخطورة، خاصة أن حليفها الأكبر حركة النهضة وائتلاف الكرامة أبرز المستفيدين من وجود هذه الجمعيات، والدليل على عدم قدرة هذه الحكومة على التحرك ضد هذه الجمعيات هو كيفية تصرفها مع اعتصام الدستوري الحر لحل جمعية اتحاد علماء المسلمين”.
وإضافة إلى الاتهامات الموجهة للمنظمات والجمعيات بتحولها إلى غطاء لنشر التطرف وغيره، تواجه هذه الكيانات اتهامات بفقدان الاستقلالية وتحولها إلى أذرع لبعض الأحزاب السياسية وهو ما يصعب من مهمة التحرك ضدها.
واعتبر المحلل السياسي هشام الحاجي أن “ملف الجمعيات التي تحيط بها بعض الشبهات مطروح منذ سنوات لعدة أسباب من أهمها ضعف الوعي لدى قطاعات واسعة من الطبقة السياسية بأهمية الجمعيات ككيان مستقل بذاته لا علاقة له بالعمل الحزبي والتوظيف السياسي، وهذا ما يفرز انتشار عقلية تحويل الجمعيات إلى أذرع واضحة ومعلومة للعمل الحزبي بما يمثل في العمق انحرافا بالعمل الحزبي والعمل الجمعياتي والتفافا على القانون”.
واستنتج الحاجي في تصريح لـ”العرب” أن “تلك الأسباب تؤدي مباشرة إلى وجود جمعيات تخالف القانون صراحة وتتحول إلى واجهة تختفي وراءها ممارسات تنتهك القانون وتمثل أحيانا تهديدا للأمن والسلم الأهلي”.
وبالرغم من تثمينه لتحرك نواب برلمانيين إلا أن هشام الحاجي يرى أن “لجنة التحقيق البرلمانية لا تتوفر لها الإمكانيات البشرية واللوجستية الكافية للقيام بعملية تحقيق وتدقيق صارمة من ناحية، ولا تملك سلطة القرار إثر ذلك لأن محاسبة الجمعيات تعود في نهاية الأمر إلى القضاء”.