فانتازيا وسريالية الأزمنة السينمائية الجميلة

الباحثون عن الفيلم العظيم والرائع سوف يبحثون في بعض الأحيان عن الفانتازيا، عن الغيبوبة الوجدانية والشعورية في الدراما الأكثر انفعالا وتفجّرا بعدما بلغ الواقع أقصاه.
الفانتازيا تعيدنا إلى الممثل أورسون ويلز وهو يلقي خطابه أو قل حواره السينمائي في فيلم “المواطن كين” (1941) والذي ما يزال واحدا من أروع الأفلام وواحدا من أفضل 100 فيلم أنتجته البشرية حتى الساعة.
وعندما تتساءل عن المنحى الواقعي التعبيري في الفيلم سوف تتناسى تلك الفانتازيا والسخرية العميقة من الواقع، وفي موازاة ذلك سوف تصيخ للراحل جيمس دين وهو يستنكر ذلك الحب الذي لا يعنيه في فيلم “شرقي عدن” (1955)، كما نجد نوعا من الاغتراب عن الواقع يعيشه المواطن كين كما يعيشه كال تراسك في “شرقي عدن” وكذلك سوف يعيشه حنا.ك في الفيلم المهم للمخرج كوستا غافراس (1983).
هذه النماذج الثلاثة التي يحمل كل منها رصيدا سينمائيا مهما وجديرا بالاعتبار تقابلها بالطبع المئات من الأفلام الأخرى، لكن القصة ليست في تلك المئات بل في نبرة الهجاء الضمني للواقع والسخرية الكاملة منه وهو الذي يتجلى في نوع من الفانتازيا التي قد تفسّر على أنها ليست إلا تجميلا للحياة أو تقليلا لضجيجها أو تخفيفا لبشاعتها.
واقع الأمر أن جدلية كهذه سوف تحيلنا إلى وظيفة السينما ودور الشاشات وهامشها الترفيهي الخالص، ناهيك عمن يتحدث عن رسالتها الثقافية والإنسانية والفلسفية.
جدلية كال تراسك تكمن في ذلك الهجاء الضمني للواقع حتى يصبح التفوّق بالنسبة إليه على أخيه بمثابة نوع من الفانتازيا التي لا يستطيع تحملها، فكيف يرضي الأب وكيف يرتضي بالحرب وكيف يرضي نفسه وجميعها متناقضات ثقال تبدو أكثر ثقلا مما يمكن تصوّره.
إنها أزمنة غضّة وشاعرية وجميلة وشديدة البراءة تلك التي ينشدها كال مقارنة بما ينشده الآخرون، لكنها لا ولن تستوي وتستقيم له كما يجب، ولهذا فإن ذلك البهاء المفقود في الحياة يراه مجرّد فانتازيا رثّة عليه مغادرتها سريعا وهو ما يعبر عنه بصدد ذلك الحب الغامض المستتر، ربما أكون أنا الذي لا أدرك ما معنى الحب بالضبط، أو في لحظات المواجهة عندما يردّد كال، هذه الليلة حاولت أن أشتري ذلك الحب لكنني لم أستطع وكان الثلاثي يقفون في عالمه، الأب والأخ والحبيبة وهو في وسط تلك الفانتازيا الصامتة.
وما بين عبقرية الكاتب جون شتاينبك والمخرج إيليا كازان كنا أمام ذلك النوع من الواقعية الغريبة التي للوهلة الأولى تبدو كذلك، لكنها أصلا واقعية مرّة وجارحة ولا إنسانية، تصل إلى ذروتها بالنسبة إلى كال في تنويع فانتازي مرير على الواقع.
هنا ليست هنالك مسارات سردية تمنحك هامشاً ترفيهياً كافياً ولا أخرى تبعث على الملل، بل هنالك وجوم إنساني كامل حتى في أشد اللحظات إشراقا وتجليّا، إلا أن الإشكالية ذاتها سوف تتكرّر مثل لازمة ثقيلة وساخرة.
في فيلم “المواطن كين” الذي أعادنا مرارا إلى جدلية الفانتازيا البشرية وكيف مرّر أورسون ويلز تلك القصة المدوّية سينمائيا، قصة الملياردير وليم هيرست الذي سوف يجن جنونه بسبب عرض ذلك الفيلم الذي يحكي قصته في فانتازيا مريرة يحاول أن يمحوها من خلال عرض أموال طائلة لمجرد منع الفيلم.
إمبراطور الصحافة والمال والأعمال يلاحق الفيلم الذي حلّ عليه كاللعنة، ويمنع عرضه في الصالات الأميركية، ويجري التشنيع به في الصحافة التي يملكها هيرست، في سخرية إنسانية تفاقم الفانتازيا التي عبّر عنها أورسون ويلز ذاته وهو ينطلق شابا في تلك الدوامة الغرائبية التي كانت فضحا مريرا لفصل من فصول الحياة الأميركية.
ولسوف يكرّر المخرج كوستا غافراس صورة حنا.ك المعبّر عن تغريبة فلسطينية كاملة باتجاه تغريبة إنسانية مكمّلة، والمفارقة أننا كنا نتحدّث عن فيلم “شرق عدن” فإذا بالمخرج كوستا غافراس يتحفنا بـ”غرب عدن” (2009)، وهو فيلم الغربة الإنسانية والضياع القيمي بامتياز وصولا إلى شكل الفانتازيا الإنساينة شديدة الغثاثة.
يقول غافراس في مختصر فيلمه وبلغة بلاغية متميزة، لكل واحد منا قصته. من ينام في محطة المترو، والشرطي وغيره، كلهم يحتفظون بحكاياتهم الخاصة. في الملحمة الشعرية الأوديسة والتي وضعها هوميروس في القرن 8 قبل الميلاد، نجد المغامرة نفسها، تحت نفس الشمس والسماء التي كانت منذ فجر الحضارة الإنسانية. وعندما يتم الوصول بعد رحلة شاقة إلى باريس، يبدو لكل مهاجر تائه، وكأنه قد حقق أحلامه.
تلك هي سريالية ذلك المهاجر التائه الباحث له عن وجود يحقّقه، أليس عنده شقيق وأب وحبيبة يريد أن يثبت لهم أهليّته وشيء من قدرته، لكنّه هنا بحاجة أن يثبت ذاته أما الأخ الأكبر الذي يمثله النظام الكوني الصارم الذي يترك آثام الخراب والحروب ليلاحق مهاجرا تائهاً يبحث لنفسه عن وجود وعن إجابات محدّدة لن يجدها بل يجد واقعاً فجّاً لا معنى فيه الا لتلك السخرية المذلّة التي هي أقرب الى الفانتازيا منها الى التراجيديا والإشفاق على الإنسان من مهازل الإنسان.