معنى أن تعيش عاطلا وأنت تعمل

هل يكتمل حلم أيّ طالب بنيل شهادة التخرّج دون الحصول على فرصة عمل؟ سؤال يبدو في ظاهره غنيا عن الإجابة ولا يحتاج تفكيرا طويلا للرد على من يشككون في ذلك الحالم بفرصة عمل أو تلك الساعية إلى وظيفة مهما كان نوعها شرط أن تكون مقبولة وتغطي جانبا من احتياجاتها. لكن أن تحصل على فرصة للعمل ليست في اختصاصك المهني أو أنت دخيل على قطاع ما، فهذا هو جوهر موضوع الرسالة المراد تفحصها جيدا في معانيها وإيصال فحواها للناس والمعطلين أساسا.
جاري القريب شاب يبلغ من العمر 41 سنة، خريج كلية هندسة منذ عام 2006. شاء قدره أن يعيش عاطلا وهو يعمل. المعنى في ظاهره فلسفي لكنه واقع معيش استأنس به هذا الشاب الذي لم يبخل منذ عرفته عن دراسته ولم يقصّر في حق الشعبة التي أسرّ لي أنه يحبها ويقدسها كثيرا وحصل على شهادة الباكالوريا من أجل أن يواصل دراسته الجامعية فيها. نجح وناضل وسهر الليالي وأبى إلا أن يواصل دراسته ويختار الهندسة التي حلم يوما بأن يكون أهلا لها. عاندته الحياة لكنه تغلب على محنها وتمسك بالأمل من أجل أن يشق طريقه نحو الشهادة العلمية.
التضحية جزء متأصل من مشروعه العلمي لا بل هي ركيزة أساسية لبلوغ هدفه المنشود. لم يترك شغلا إلا وكان سباقا إليه بالتوازي مع دراسته. اشتغل حارسا ليليا، خبازا، عامل نظافة في إحدى الحانات، موزع مجلات وغيرها من الأشغال الليلية المرهقة من أجل توفير مستلزمات الجامعة والكراء والأكل والشرب وغيرها الكثير. هذا مناضل برتبة طالب علم يقول عنه بعض زملاء الدراسة، فيما يستهزئ به البعض الآخر المترفّه من الخلان في الجامعة ويضايقونه بالأسئلة المحرجة كلما اجتمع بهم في ركن من أركان الجامعة.
قضّى هذا الشاب الألمعي سنوات الدراسة على هذا النحو. كان لا يتخلّف عن تسجيل اسمه بين الأوائل عند الإعلان عن نتائج الامتحانات كل سنة. هكذا درّب نفسه وتعلّم من الحياة التي لم يذق حلاوتها والشقاء الذي لازمه كظله. هي فلسفة ربما تربّى عليها الكثير من الشباب الطلابي للمدن الداخلية التونسية لكن حياة رفيقي هذا كانت أكثر قتامة منهم. حصل المراد ونال الشهادة العلمية التي ضحى ودفع الكثير من حياته لأجلها طامعا في أن يبتسم له الحظ يوما ويلتحق بإحدى المؤسسات الحكومية أو الخاصة للعمل. كان يراوده حلم كبير بأن يلتفت يوما إلى ذلك الأب القاصر عن العمل لمرض عليل تركه في ركن من البيت لا يقدر على الحركة وأمّ تروي تجاعيد وجهها سنين القحط المرّ وعذابات الحياة التي مرت عليها وهي تناضل من أجل أن يكمل أبناؤها دراستهم. له من الإخوة خمسة صغار في الأعمار، كلهم يواصلون دراستهم. وجد نفسه بين جحيمين. جحيم العائلة الفاقدة للعون وجحيم اللهث وراء فرصة عمل أحبها وذاق ما ذاق من أجل الوصول إليها.
جاد الزمن على صديقي المهووس بالحصول على فرصة عمل أخيرا ليكون مشرفا على مركز لتجميع الحبوب في القرية الصغيرة التي يسكن بها. لم يتأخر عن الوظيفة التي كانت بنصف راتب تقريبا لما كان أن يجنيه لو وظّف في عمله الأصلي. رضي غصبا بما منّ عليه ربه سائلا إياه أن يكون خير عون لعائلته وإخوته الصغار. سمعت مؤخرا أنه عقد قرانه وزُفّ للزواج. قلت في قرارة نفسي “تلك هي سنّة الحياة” التي لم يخترها لكن قدره وضعه فيها فرضخ لمصيرها راضيا مسترضيا، شاكرا حامدا لا عاصيا متكبرا.
معلوم أن الآلاف من الشباب أمثاله ساروا على نفس النهج مرغمين، لا قانعين راضين بما كتب لهم، فتلك ربما حكمة يسطّرها القدر وما على المرء سوى الطاعة والرضا بما كتب له.