الروائي المصري حاتم حافظ: مأساة سوريا حولت البشر إلى قطط

الكاتب حاتم حافظ يعتقد أن الخيال يتوسل بالكاتب فالأمر أشبه برسالة إلهية لا يهم من يلعب دور الوساطة فيها طالما أن الرسالة تصل لأصحابها.
الثلاثاء 2021/03/02
الرواية ضد لعبة الحرب (لوحة للفنان هيا حلاو)

بشر كالقطط تائهون، لا يعرفون مستقرا أو مأوى، ويعبرون الطريق بخوف، بوجل، بتردد، وبقلق من مستقبل مجهول تستحيل قراءته تتشابك فيها الأقدام وتتداخل المسارات فلا يعرف المشاؤون غايات طُرقهم، وتتعدد الأقنعة وتتلون الوجوه وتتحول جميع الأمكنة إلى فخاخ. هكذا نجد خارطة العرب الآنية متاهات تُفضي إلى متاهات، كما يصورها الروائي المصري حاتم حافظ، الذي كان لـ”العرب” معه هذا الحوار.

يشرد المواطن العربي بحثا عن ملاذ، أمان واطمئنان، ويُفكر، يتأمل، ويتدبر ما حوله ويُعيد حساباته ويراجع مسلماته.. بهذا المنطق رسم الروائي والكاتب حاتم حافظ عالمه الغائم، مرتكزا على مأساة لسيدة سورية تبحث عن حياة آمنة مستقرة، فتندفع إلى حيث لا تريد، مثل قطة شريدة تتقاذفها الأقدار.

يعتبر حافظ في روايته الأحدث “كقطة تعبر الطريق” مأساة التشرد السياسي جزءا أصيلا من التاريخ البشري كله. ويقول في لقائه مع “العرب” إن التشرد قائم منذ الأزل، لكن التاريخ لم يكن لديه كل هذا الإعلام الذي لدينا والذي يخلق الحاجة للآلاف من التصريحات يوميا بخصوص كل شيء.

التباس الهويات

يؤكد حافظ أن العالم لم يعد أكثر إنسانية كي يجعل من مسلسل التشرد بعيدا عن الأوطان، من هُنا ظهرت في الرواية عدة شخصيات أخرى تبدو مشردة أو نازحة عن أوطانها لأسباب بعضها سياسي وبعضها وجودي، ما يعني أن الرواية كان من الممكن أن تُكتب هذا العام أو قبل عشرين عاما، أو ربما قبل ذلك بزمن.

ويتصور الروائي المصري أن الأزمة العربية منذ 2010 مجرد هاجس لأزمة ممتدة في التاريخ. فالمنطقة التي نسميها العالم العربي التي باتت تُعرف بالشرق الأوسط لديها أزمة هوية بسبب توالي الاستعمارات.

مأساة التشرد السياسي
مأساة التشرد السياسي 

ويوضح أن العرب أنفسهم بتوسعهم في تلك المنطقة خلقوا أزمة هوية طاحنة بسبب الدين، فالمصري مثلا استسلم بسبب العقيدة الجديدة للمستعمِر لدرجة جعلته لا يدافع فقط عن محتليه بل جعلته أيضا يردد خطابهم، لدرجة أن أي محاولة ثقافية لطرح إجابة هوياتية مختلفة تعرض صاحبها للطعن في دينه، بل وفي وطنيته أيضا.

ويظهر ذلك بوضوح في الرواية، إذ يبدو الطفل النمساوي بين والديه في البلاد التي ولد فيها، ومستقبله يكاد يكون مرسوما على جبينه، على العكس تبدو الطفلة السورية لي لي التي انتقلت مع أمها بين ثلاث دول، رغم أنها لم تكمل عامها الخامس، وصارت الأزمة السورية هنا معبرة إلى أقصى درجة عن الشتات العربي، بمفاهيمه الثلاثة الجغرافي والتاريخي والثقافي.

ويشير حافظ إلى أن مفهوم الوطن صار ملتبسا للغاية، فهو كان الكهف الذي يعود إليه الإنسان قديما أو الفضاء الذي كان يتحرك فيه والذي يجد طعامه وشرابه فيه، لكن بدافع الخوف اندفع الإنسان للانخراط في جماعة ليحتمي بها ضد المخاطر التي أنتجتها الجماعات المحيطة.

 وبدافع الخوف أيضا تشكلت القوميات في ما بعد، لهذا شكّل الاتحاد الأوروبي نموذجا بديعا لفكرة التغلب على الخوف في بداياته، ومع الوقت صار جماعة بإزاء الجماعات المحيطة به، ولم يتخلص الأوروبي من خوفه وظل مكتوما في لا وعيه حتى انفجر مجددا وتسبب في تصاعد قوى اليمين مؤخرا.

وتوقع أن يكون كل شخص في المستقبل هو وطن في حد ذاته، ولن يكون الوطن غير الوسادة التي تحمل رأس المرء نهاية اليوم.

وفي اعتقاده أن الكاتب لا يتوسل بالخيال، لكن يتوسل الخيال به، فالأمر أشبه برسالة إلهية لا يهم من يلعب دور الوساطة فيها طالما أن الرسالة تصل لأصحابها.

من هنا خطر له أن امرأة سورية مضطرة لترجمة رواية تدور أحداثها في أماكن لم تعد موجودة على الخرائط، وطاردها خاطر دون أن يعرف ما الذي يمكنه عمله.

وحول مصادر روايته، يقول حافظ “إنه لا يمكن الاعتماد على الخيال وحده، فالفن يبدأ من الواقع دائما، لكن مفهوم الواقع يتغير من فضاء معرفي إلى آخر، والواقع في الفن ليس هو الوجود المادي فحسب، بل أيضا الرؤية الفنية التي تنظم هذا الوجود”.

ويضيف أن بعض القراء اعتقدوا أنه زار كل الأماكن التي كتب عنها، والبعض اندهش كونه مصريا ويكتب عن سوريا، لكن في رأيه فإن هذه مسائل غير جوهرية في الفن، وأن أستاذه في الرواية خيري شلبي نصحه ذات مرة بألا يكتب إلا ما يعرفه، وقبل أن يسيء فهم نصيحته شرح له أن ما يعرفه لا علاقة له بما خبره كإنسان، بمعنى أن هناك فرقا بين التجربة والخبرة، فهو لم يمر بتجربة الحرب ولم يحمل سلاحا ويشعر بألمها، ونفس الأمر يتعلق بالموت الذي أفاض الروائيون فيه.

ويكشف لـ”العرب” أن هناك أصولا عديدة لروايته فقد تابع حكايات أصدقاء عراقيين وسوريين وغيرهم التقاهم في أوروبا، وتحاور معهم حول ما يقاسونه ويعانونه ويعايشونه.

 الشخصيات تتشكل ذاتيا

حاتم حافظ: الخيال وحده لا يكفي للإبداع فالفن يبدأ من الواقع دائما لكن مفهوم الواقع يتغير من فضاء إلى آخر

 يؤكد حافظ أن شخصياته تتشكل وتظهر فجأة دون إرادة أو تحضير ثم يبدأ في مراقبتها، حتى أنه لا يستطيع في أي وقت التدخل في ما سوف تقوله أو في ما سوف تفعله.

ويتابع قائلا “أغلب شخصيات الرواية لي ظهروا في اللحظة نفسها التي ظهروا فيها في الرواية، إن أولجا وباها وحتى سهيلة لم أخطط لوجودهم وتفاجأت بهم وبما يفعلونه، فالأمر يشبه عمل النحات الذي يجد أمامه قطعة حجر فيبدأ في اكتشافها وليس في تشكيلها”.

يذكّر ذلك بقول الفنان المصري الراحل محمود مختار عندما ذكر أنه توقف عن النحت حين وجد أنه يعرف ما الذي سوف يفعله بالحجر حين يراه.

ويؤكد حافظ أن المكان جزء أصيل من دراما العالم، فكل حدث يجري في مكان، وفي الفن فإن كل حدث يلزمه مكان محدد ليس لكي يكون الحدث معقولا، بل أيضا كي يفعل أثره في القارئ.

واكتشف خلال دراساته المبكرة عن تشيخوف أنه يخلق مسرحياته وفق نظام محدد على مستوى المكان، فيبدأ الفصل الأول في مكان مفتوح ثم يحشر شخصياته في نهاية المسرحية في أضيق مكان، وخالف هذا النظام في مسرحية “الشقيقات الثلاث” لأنها مسرحية عن الصراع على الفضاء، حيث تنتهي بأن تستولي زوجة الأخ على البيت فيما نرى الشقيقات خارج البيت.

ويولي حافظ اهتماما كبيرا بالفضاءات التي تجري فيها الأحداث، ولا يخطط لها أبدا، ويرى أن الكاتب المعاصر لديه حظ كبير في الكتابة عن أماكن لم يزرها، فمثلا عن طريق “غوغل مابس” يمكن رؤية الشوارع التي تسير فيها الشخصيات ومعرفة المطاعم التي يمكن تناول وجباتهم فيها، وعن طريق الإنترنت يمكن الاطلاع على قوائم الطعام لمعرفة أي من الوجبات سوف يتناولونها. ويعترف الأديب المصري بأنه لم يزر من بين الأماكن التي وردت في روايته سوى بعض المدن في فرنسا.

وحول ازدحام السوق الأدبي بروايات وروائيين كثر، يقول حافظ هناك إقبال شديد من القُراء على الرواية على حساب كل الأشكال الأدبية الأخرى، ولذلك أسباب تضرب في عمق الاجتماع والسياسة في العالم كله، فالأمر له علاقة بغياب الأطر المعرفية الكبيرة كالدين والفلسفة والأيديولوجيا بوصفها قادرة على تفسير العالم.

ويلفت إلى أن المسألة ليست مجرد احتياج جمالي لشكل فني دون الآخر، فحتى لو كانت كذلك، فهذا الاحتياج له ما يبرره، لأنه لا يخلق في الفراغ، “في عصور أقدم كان البشر يمكنهم أن يعايروا بعضهم، وهو ما كان يميز الشعوب المتحضرة عن غيرها، أما في العصور الحديثة لم تشعر أي جماعة أو أي شعب بالافتقار لوجود كتاب ما، فقد اتسع مفهوم الكتاب ليشمل الفلسفة والأيديولوجيا، الآن فإن الرواية هي كتاب هذا العصر، لهذا كتبت ذات مرة إن فن الرواية بدأ بعد انقطاع الوحي”.

ويشير إلى أن للرواية وظيفة مهمة هي منح الأمل لليائسين ومنح العزاء للذين يحتاجون إليه، فهناك روايات عن الحرب لكن الروايات الحقيقية هي التي لا يهمها الحرب نفسها، قدر ما يهمها الناس الذين مررتهم تجربة الحرب.

المكان جزء أصيل من دراما العالم، فكل حدث يجري في مكان، وفي الفن فإن كل حدث يلزمه مكان محدد ليس لكي يكون الحدث معقولا، بل أيضا كي يفعل أثره في القارئ

ويرى أن بعض الروايات تكتب عن الحرب حتى تمنع الناس من أن يتقاتلوا، وإذا كان يمكن للكتب المقدسة أن تنصح الناس النصيحة الأشهر “لا تقتل”، فإنه يرى أن الفن أكثر قدرة على أن يحشد الناس ضد القتل، وعلق قائلا “لهذا السبب أظن وأتصور أن شخصا يقرأ الروايات لا يمكنه أن يصبح قاتلا”.

حاتم حافظ روائي وكاتب مصري أكاديمي من مواليد فبراير سنة 1974، يعمل في السيناريو وصناعة الأفلام التسجيلية، صدرت له روايته الأولى سنة 2009 بعنوان “لأن الأشياء تحدث” وكتب عددا من المسرحيات أبرزها “المشهد الأخير”، “اغتصاب” و”حكاية ضحى” التي فازت بجائزة المسرحيين العرب بالشارقة سنة 2011، فضلا عن مجموعة قصصية بعنوان “بسكويت وعسل أسود” وكتاب “إسلام أم إسلاميات.. قراءة في الخطاب الديني”.

وكتب حافظ عددا من الأعمال الدرامية الناجحة مثل “استيفا” و”الشارع اللي ورانا” وترجمت بعض نصوصه للإنجليزية والفرنسية والألمانية.

15