سلطتا الفشل إذ تطلبان المزيد منه

قبل كل شيء لا بد للناخب الفلسطيني أن يسأل قادة السلطتين ما هو الجديد في برنامجيهما، فإذا ما اكتشف أنهما يحاولان تجريب المجرب فلا بد له أن ينصرف عن عقلهما المخرب.
الثلاثاء 2021/02/16
تنافس حزبي من أجل البقاء في السلطة

انتهت حوارات القاهرة بين طرفي الانقسام الفلسطيني، وكل ما بينهما من فصائل، إلى اتفاق على إقامة حكومة “وحدة وطنية”. ولكنهما لم يقولا: على أساس أي برنامج؟

وبدلا من دخول الانتخابات على “قائمة مشتركة”، كانت ستكون فضيحة، فقد اختار الطرفان الوجه الآخر للفضيحة، أي بدخول الانتخابات على قائمتين منفصلتين، تغنّي كل منهما أغنية مختلفة، ولكنهما اتفقا على أن يشكلا معا “حكومة وحدة وطنية” تحقق الشيء نفسه الذي كانت “القائمة المشتركة” تقصد أن تحققه، وهو بقاؤهما في السلطة، على أساس ما من أسس المحاصصة.

الخيار الطبيعي والمخلص مع النفس، كان أن يدافع كل منهما عن سياساته وخياراته، ويطرح برنامج عمل خاصّا به ليعرضه على الناخبين، فيفوز من يفوز ليتولى السلطة، ويخسر من يخسر ليجلس في مقاعد المعارضة منتظرا دوره.

الأحزاب الفلسطينية لديها قضية وطنية أولا. ولكي يقوم لها قائم، فإنها إما أن تستند إلى رؤى متعددة ويترك للناخب الاختيار بينها، فيكسب من يكسب ويخسر من يخسر. وإما أن يتمّ التوافق على إطار وطني جامع

الخيار الصحيح الآخر، كان أن يتفق الطرفان على برنامج عمل مشترك، واضح المعالم، في الإدارة المحلية والموقف من المفاوضات مع إسرائيل، يحدد المنطلقات والسقوف، ويدعو الناخبين إلى التصويت له.

أما أن تدخل الانتخابات ببرنامجين مختلفين، ثم تشكل “حكومة وحدة وطنية”، فهذه بدعة ليس كمثلها بدعة، خاصة وأنهما ينطلقان من رؤيتين مختلفتين ومتصارعتين ولا وفاق بينهما.

هاتان السلطتان لا تملكان شيئا أبعد مما دأبتا على تكراره. وبالدرجة الأولى من ذلك، أنهما تضعان بيض الرهانات في سلة الغير، لا في سلة الجواب “عما سنفعله نحن”. ولا في سلة السعي إلى الإصلاح والتغيير الداخلي ولا الإدارة النزيهة لشؤون ومصائر القضية الوطنية. وكلاهما يبيع الأوهام.

قبل كل شيء، لا بدّ للناخب الفلسطيني أن يسأل قادة السلطتين، ما هو الجديد في برنامجيهما، فإذا ما اكتشف أنهما يحاولان تجريب المجرب، فلا بدّ له أن ينصرف عن عقلهما المخرب.

وحيث أنهما لا يملكان إلا كلاما لا يمكن التيقن من قابليته للتطبيق، فمن الحريّ بالناخب الفلسطيني أن يدقق في واقعية ما يتم طرحه من خيارات وحلول.

تحديد الاستراتيجية الوطنية كان يجب أن يبدأ من المجلس الوطني، بعد تحويلها إلى برنامج عمل وطني واضح. هذه الاستراتيجية، هي الحصان الذي يجرّ خلفه النظام والمؤسسات وسياسات الفصائل أو الأحزاب

والواقعية هنا، لا تعني شيئا أكثر من النظر في ما إذا كانت تلك الخيارات والحلول هي من جنس ما هو قابل للتطبيق، وليس من جنس ما سوف نتوسل الآخرين للقيام به.

مطالبة الآخرين بالعودة إلى المفاوضات، على سبيل المثال، مجرد “حكي فاضي”. لأن الصحيح هو ما ستفعله هذه السلطة أو تلك لتحقيق تلك العودة، وما هي البدائل التي يتعيّن الأخذ بها إذا اختار الطرف الآخر العرقلة أو التملص من الالتزامات.

المفاوضات نفسها لا يكفي أن تُخاض كمجرد استئناف من أجل الاستئناف. فتكون مشهدا مسرحيا لا يمضي في اتجاه محدد.

وقد يحسن بالبرنامج السياسي أن يأخذ بالاعتبار حقيقة أن إسرائيل لا تريد السلام ولا مصلحة لها فيه. وعندئذ فإن السؤال الواجب هو، “ماذا سنفعل لكي نفرضه عليها”.

البرنامج الذي لا يقدم جوابا عمليا على هذا السؤال لن يكون أكثر من برنامج خِداع.

ويعرف القاصي والداني أنه سوف يتمّ سرد الكثير من العموميات عن الصمود والمقاومة، من دون مُحددات عملية قابلة للتنفيذ. لأن “المقاومة” بعُرف طرفي الانقسام هي عمل من أعمال الدبكة في المهرجانات والتظاهرات الخطابية.

الإصلاح المطلوب في عمل المؤسسات الفلسطينية، التنظيمية أو السياسية أو الإدارية، شأن لا بدّ وأن يحتل المقام الأول في أيّ برنامج، على الأقل لأن هذا ما لا علاقة له بأحد. ولا رهانات فيه على الغير. ولا يتطلب وساطات ولا مفاوضات. إنه شأن داخلي محض. ومن لا يجرؤ على قبول الإصلاح، فمن الخير للناخب الفلسطيني أن يبتعد عنه كما يبتعد عن وباء. ذلك لأن الفشل في إصلاح الأعطاب الداخلية هو تعبيرٌ كافٍ بحدّ ذاته عن فشل السلطة في كل شيء آخر.

إذا كان هناك فساد، فالإصلاح مطلوب. وإذا كان هناك ترهّل إداري، فالإصلاح مطلوب، وإذا كان هناك فشل سياسي فالإصلاح مطلوب أيضا. ويستطيع العاقل أن يفهم أن الذين كانوا جزءا من الأزمة، لا يمكنهم أن يكونوا جزءا من الحل. والذين عجزوا عن توفير مخارج من الأبواب الموصدة، لا يستطيعون الزعم بأنهم يملكون المفاتيح.

بمعنى آخر، فإن الذين قادوا شعبهم إلى حيث هو الآن، لن يكون من الحكمة ولا العقل ولا المنطق الاعتقاد بأنهم سوف يقودونه إلى غير المكان نفسه.

المأزق الذي صنعوه، سواء أكان مأزقَ عنتريات، أم مأزق “واقعية سياسية” وهمية، سوف يعود ليكرّر نفسه. مما يغني الناخب الفلسطيني عن الأمل بما لا أمل فيه.

وهناك جيل جديد من الشباب الذي يحسن وضع الثقة به والتعويل عليه. فالفلسطينيون بحاجة إلى مقاربات لا تشبه المقاربات السائدة، وإلى تيار سياسي لا يشبه التيارات السائدة، وإلى قيادات لا تشبه القيادات التي استوطنت السلطة والأمانات العامة وكأنها نوع آخر من الاحتلال.

المجتمع الفلسطيني بحاجة إلى حركية جديدة، تنفض عنه الغبار، وتعيد إحياء روح التضامن الاجتماعي والعمل من أجل بناء نموذج جديد لسلطة تحترم عقول شعبها، ولا تخادعهم بالأوهام.

هاتان السلطتان لا تملكان شيئا أبعد مما دأبتا على تكراره. وبالدرجة الأولى من ذلك، أنهما تضعان بيض الرهانات في سلة الغير، لا في سلة الجواب “عما سنفعله نحن”. ولا في سلة السعي إلى الإصلاح والتغيير

جيل جديد من القادة، منفتح الفكر، يُصغي إلى الخبرات الوطنية، وقادر على رسم استراتيجيات قابلة للتنفيذ على المديين القريب والبعيد، هو من يجدر وضع الثقة به.

طرق الحرية كثيرة. والمجتمع الفلسطيني قادر على أن يطرقها بشتى المبادرات الاجتماعية والاقتصادية وفي مجالات الإدارة والتنظيم.

ومقاومة الاحتلال، مفهوم يجب أن يتحرر من الغموض والافتراضات الزائفة. وأحد أهم أوجهه، تعميق الشراكة بين ضفتي الشعب الفلسطيني في أراضي 67 و48 على حدّ سواء.

والدولة الفلسطينية التي لم تقدر سلطتا الانقسام على تقديم نموذج جدير بالاحترام لها، يجب أن تقام كدولة مؤسسات تخضع لسلطة القانون، لا دولة أيديولوجيا، ولا دولة مسرحية من رجل واحد، ولا دولة تقاسم حصص. ذلك لأن “مؤسسة الدولة” شيء، و”سلطة الحزب الحاكم” شيء آخر.

لا شيء أوضح من حقيقة أن طرفي الانقسام خاضا صراعهما الدامي من أجل السلطة. وهما يريدان خوض الانتخابات من أجل السلطة أيضا. وهذا سلوك يقلب المعايير، ويقلب الأولويات.

القضية الوطنية الفلسطينية ليست قضية فصائل أو أحزاب. إنها قضية شعب. والتنافس يجب أن يمضي في الاتجاه الذي يؤكد طبيعتها كقضية وطنية جامعة، لا كقضية تنافس حزبي. ولهذا السبب فإن التوافق على استراتيجية وطنية واضحة، هو الواجب الأول. أما الذين يجعلونه واجبا ثانيا، بعد الانتخابات، فإنهم يكرسون الانقسام من حوله.

الصراع بين أحزاب متنافسة، من أجل السلطة، يصلح في السويد وأمثالها من الدول، وليس في فلسطين. لأن الصراع الأول هنا هو مع الاحتلال، من أجل التحرر، لا من أجل السلطة. وفي الواقع، فإن الذين وضعوا العربة أمام الحصان هم الذين جعلوا من المأساة الراهنة مأساة.

الأحزاب الفلسطينية لديها قضية وطنية أولا. ولكي يقوم لها قائم، فإنها إما أن تستند إلى رؤى متعددة ويترك للناخب الاختيار بينها، فيكسب من يكسب ويخسر من يخسر. وإما أن يتمّ التوافق على إطار وطني جامع، وتترك للناخب المفاضلة بين برامج التنفيذ. ولكن، ألّا تفعل هذا ولا ذاك، وتختار أن تخوض الانتخابات على رؤى متصارعة ثم تختمها بـ"حكومة وحدة وطنية"، من دون أن تقول للناس على أي أساس، فهذا خِداع.

اختار الطرفان الوجه الآخر للفضيحة، أي بدخول الانتخابات على قائمتين منفصلتين، تغنّي كل منهما أغنية مختلفة، ولكنهما اتفقا على أن يشكلا معا “حكومة وحدة وطنية” تحقق الشيء نفسه الذي كانت “القائمة المشتركة” تقصد أن تحققه

تحديد الاستراتيجية الوطنية كان يجب أن يبدأ من المجلس الوطني، بعد تحويلها إلى برنامج عمل وطني واضح. هذه الاستراتيجية، هي الحصان الذي يجرّ خلفه النظام والمؤسسات وسياسات الفصائل أو الأحزاب.

ولكن في حدود المسالك القائمة الآن، فقد تمّ دفع هذه الرؤية إلى الأخير الذي قد لا يصل إليه أحد.

لقد اتفق طرفا الانقسام، على أن يخوضا الانتخابات، كلٌ على أساس رؤيته، ومن بعد ذلك يقيمان حكومة “وحدة وطنية”، لا تعرف ما هي رؤيتها أصلا.

لا مرض عضالا أسوأ من هذا المرض. وهو مرض له علاقة بالسلطة التي صارت هي “القضية” ولكن لا علاقة له بالقضية الوطنية. فهذه شيء وتلك شيء آخر.

الإصلاح مطلوبٌ لأن المجتمع الفلسطيني كله بات بحاجة إلى علاج ممّا أورثته له سلطتا الانقسام.

لقد قلبت هاتان السلطتان المعايير والأولويات حتى بلغ البؤس أنه لم تبق معايير ولا أولويات. إلا البقاء في السلطة.

9