"لا حكم عليه": قضية دولية في سياقات عربية

“لا حكم عليه” عنوان مقتبس من وثيقة رسمية تطلبها بعض الجهات الحكومية للتأكّد من عدم وجود أي حكم قضائي في حق صاحبها، والسماح له بإتمام حياته بشكل طبيعي. هذه الورقة ستأخذ معنى جديدا ضمن سياق المسلسل السوري اللبناني المشترك الذي تكشف أحداثه عن عصابة اختصّت في الاتجار بالأعضاء البشرية.
انتهت حلقات المسلسل السوري اللبناني المشترك “لا حكم عليه” بمفاجأة مثيرة، وربما لم تكن متوقّعة للكثير من المشاهدين. بعد أن تكشّفت الخيوط الرئيسية للجرائم المروّعة التي ترتكبها إحدى التشكيلات الإجرامية المتخصّصة في تجارة الأعضاء، ولم يبق للمشاهد سوى أن يتعرّف على الرأس المدبّر لكل هذه الجرائم التي راح ضحيتها الكثيرون، ليتضح في النهاية أنه أحد الأشخاص الذين لم تكن تحوم حولهم الشبهات بالمرة.
هي توليفة بوليسية مثيرة، ربما تكون مكرّرة، غير أن المعالجة الدرامية للأحداث والتسارع الذي اتسم به المسلسل يدفعان بنا إلى التغاضي عن هذه الجزئية تحديدا، لنجد أنفسنا مدفوعين إلى مواصلة المشاهدة من أجل الاستمتاع بجمالية المشاهد والأداء التمثيلي المميّز لأبطاله.
تميّز في الأداء
يشير عنوان المسلسل “لا حكم عليه” إلى وثيقة إبراء الذمة من الجرائم التي تصدرها الجهات الرسمية اللبنانية للأشخاص الذين تمت تبرئتهم في قضايا جنائية.
عُرض المسلسل حصريا على منصة “شاهد. في. آي. بي”، وهو أول الأعمال التي تستهل بها الدراما اللبنانية عام 2021. ويجسّد العمل بلا شك التعاون المثمر بين نجوم الدراما اللبنانية والسورية خلال السنوات الأخيرة.
بطل العمل هو النجم السوري قصي خولي، والذي يقف هنا للمرة الأولى أمام النجمة اللبنانية الصاعدة فاليري أبوشقرا.
ويمكننا التوقّف كذلك أمام الدور الذي تلعبه أبوشقرا في هذا المسلسل، فقد بدا أداؤها استثنائيا بالفعل ومبشّرا ببزوغ نجمة حقيقية تتمتّع بالقبول والتمكّن معا.
ويختلف دور أبوشقرا في مسلسل “لا حكم عليه” عن أدوارها التي طالعتنا بها خلال السنوات القليلة الماضية، بداية من مشاركتها في مسلسل “الهيبة” إلى دورها في مسلسل “ما فيي”، حيث برز أداء الفنانة هنا أكثر تماسكا وبعيدا عن الافتعال.
ويبدو أن النجمة القادمة من عالم الجمال والموضة، والتي حملت من قبل لقب ملكة جمال لبنان، تستعد للتربّع بين نجوم الصف الأول في الدراما اللبنانية عن جدارة.
كما يعدّ أداء النجم السوري قصي خولي من الجوانب اللافتة في العمل، فقد نجح خولي بالفعل في التعبير عن الانفعالات ومشاعر الغضب ببراعة، وفق أداء سلس وخال من المبالغات.
وتشارك في المسلسل إلى جانب كل من فاليري أبوشقرا وقصي خولي مجموعة متنوعة من النجوم اللبنانيين من بينهم النجم عبدو شاهين وأسعد رشدان وكارول الحاج وطوني عيسى وإيلي متري وجمال حمدان وكارين سلامة ورندة كعدي وكارلوس عازار، بالإضافة إلى عدد من الوجوه الجديدة.
والمسلسل من إخراج فيليب أسمر، أما السيناريو فهو نتاج تعاون مشترك بين الكاتبة اللبنانية نادين جابر والسوري بلال شحادات، وهو باكورة إنتاج شركة صباح إخوان لهذا العام التي يحسب لها حرصها الدائم على التدقيق في انتقاء نصوصها، وقدّمت للمشاهد العربي العشرات من الأعمال الدرامية الناجحة.
سرّ دفين
يطرح العمل المكوّن من 15 حلقة واحدة من القضايا الملحة على المشهد العربي والدولي، وهي جريمة الاتجار بالأعضاء البشرية، وهي أحد الجرائم التي تنطوي على العديد من الإشكاليات الأخلاقية والدينية والاجتماعية.
ويتعرّض العمل للكواليس الخفية وغير الأخلاقية التي تحكم هذا النوع من التجارة الممنوعة، وتبعاتها ودوافعها الاجتماعية والنفسية على ضحاياها.
وتبدأ الأحداث هادئة تماما في استعراض مقتضب للأجواء الاجتماعية والأسرية لأبطال العمل، فتطالعنا مثلا علاقة الحب التي تجمع بين كل من نسيم الذي يؤدّي دوره قصي خولي والشابة نور التي تؤدّي دورها كارول الحاج.
يعيش نسيم مع والدته التي تعمل كممرضة في أحد المستشفيات الشهيرة ويسعى جاهدا إلى إتمام زواجه بخطيبته التي يحبها. وعلى الجانب الآخر نتعرّف على العلاقة الدافئة التي تجمع بين الفتاة زمن وتؤدّي دورها فاليري أبوشقرا وأبيها الذي يعمل صحافيا.
ومع هذه العلاقات الأسرية الاعتيادية، تكشف لنا الأحداث الأولى للمسلسل أن هناك سرا غامضا يحيط بوالدة نسيم، إذ أن هناك من يراقب خطواتها ويتتبّعها في الخفاء. نكتشف لاحقا أن والدة نسيم متزوّجة في السر من أحد رجال الأعمال، وهو صاحب المستشفى جمال راشد الذي يؤدّي دوره الفنان أسعد رشدان.
وفي الوقت الذي يجتمع فيه الزوجان داخل بيتهما الخاص يتلقّى نسيم مكالمة من والدته تستدعيه خلالها لأمر هام، ثم يتم تخدير نسيم واقتياده إلى حيث توجد والدته، لنراها مُقيّدة إلى جوار زوجها.
وحين يفيق نسيم يكتشف مقتل والدته وزوجها الذي لا يعرفه، ويُتهم على إثر ذلك بقتلهما معا دفاعا عن الشرف. ومن هناك يتم إصدار حكم بالمؤبد على نسيم ويكابد الظلم في السجن بين عدد من المجرمين القساة وغليظي القلب.
بعد خمس سنوات قاسية يقضيها نسيم في السجن تظهر المحامية الشابة زمن وتعرض عليه مساعدته في إثبات براءته، وتخبره أنها تملك الدلائل على ذلك. تتمكّن المحامية بالفعل من إثبات براءة نسيم من تهمة القتل، لتتّخذ هنا الأحداث مجرى مختلفا. يخرج نسيم من السجن ليجد نفسه قد خسر كل شيء، حتى خطيبته التي أحبها تخلت عنه لتتزوّج من شاب آخر.
تبدأ رحلة نسيم بالبحث عن قاتل والدته بمعاونة المحامية الشابة لتكشف لنا الأحداث عن المزيد من الأسرار والخفايا المثيرة. ويكتشف بطل المسلسل أن والدته كانت متزوجة في السر، كما يتّضح له السبب الحقيقي الذي دفع المحامية زمن للدفاع عنه وإصرارها على كشف أسرار الجريمة.
نعرف أن الدافع وراء اهتمام زمن بقضية نسيم يرجع إلى اكتشافها مافيا منظمة لتجارة الأعضاء تعمل في لبنان، وأنها قد وقعت في صباها ضحية لهذه التجارة.
وهكذا يسعى كل من نسيم وزمن إلى الكشف عن خيوط هذه الجريمة المنظمة، ويواجهان من أجل ذلك المزيد من المخاطر والتهديدات بالقتل في محاولتهما للتوصل إلى من يقود هذا التنظيم الإجرامي.
نجح مسلسل “لا حكم عليه” في الابتعاد عن التنميط المعتاد في مثل هذه الأعمال البوليسية والقائمة على الإثارة والغموض، مع ضبط لافت لأداء المشاركين فيه، وربما يرجع الفضل هنا بلا شك إلى الإدارة الإخراجية المتمكنة للمخرج اللبناني فيليب أسمر الذي قدّم لنا من قبل عددا من الأعمال الدرامية المميزة من بينها مسلسله الناجح “ثورة الفلاحين”.
وتمكّن أسمر أيضا في عمله الجديد من تشكيل ملامح ثنائي درامي ناجح على شاكلة تيم حسن ونادين نسيب نجيم، حيث استطاع كل من قصي خولي وفاليري أبوشقرا من فرض نفسيهما كثنائي جديد سيدعم الثنائيات السورية اللبنانية في سماء الدراما العربية، وذلك عبر تجسيدهما لدورين مركّبين دون السقوط في الافتعال والإثارة.