ليبيا.. التفاؤل أو التفاؤل المعكوس بالحل

بعد اختيار الشخصيات التي ستتولى المجلس الرئاسي والحكومة الانتقالية في ليبيا لتهيئة الأجواء لإجراء انتخابات عامة في ديسمبر 2021، انصبت أنظار المراقبين على ما ستشهده المرحلة المقبلة والتي من المرجح أن تكون حبلى بالمفاجآت، وذلك بالنظر إلى العراقيل الكثيرة قبل تهيئة الأجواء لأيّ مسار سياسي في المستقبل، وخاصة في ما يتعلق برغبة الفرقاء الليبيين بوضع حد للفوضى والاقتتال والانقسام بين الشرق والغرب، في الوقت الذي يُنظر فيه لأيّ نجاح محتمل على أنه نجاح لأبرز اللاعبين في الملف الليبي.
تونس - لم تتوقف عبارات الترحيب ومفردات التثمين والإشادة التي انهمرت تباعا في تصريحات الفرقاء الليبيين، وعجت بها بيانات القوى الإقليمية والدولية، منذ الإعلان الجمعة الماضي عن انتخاب عبدالحميد الدبيبة رئيسا للسلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا، لإدارة المرحلة الانتقالية التي تسبق الانتخابات العامة المُقرر تنظيمها في الـ24 من ديسمبر القادم.
وتتالت ردود الفعل إزاء هذا الحدث الذي فرض إيقاعه بقوة، وسط موجة عارمة من التفاؤل سادت الداخل الليبي، وكذلك أيضا غالبية العواصم العربية والأفريقية والغربية، تخللها خطاب سياسي جديد يدفع بلهجة “واثقة” نحو “التبشير” بدنو ساعة فتح الانسداد وتجاوز عناصر المأزق، بما يُنهي حالة الفوضى والانقسام والاقتتال التي تعصف بليبيا منذ العام 2011.
تفاؤل ورغبة كاذبة
هذا التفاؤل الذي ترافق مع ما يُشبه “الرغبة الكاذبة”، في إيجاد حل فعلي وعملي للأزمة الليبية، عكستها “اللهفة المُتسرعة” في الحديث عن برامج الإعمار وإعادة البناء على قاعدة تقاسم المصالح في توزيع مشاريع القطاعات الواعدة والكبيرة وفقا لموازين القوى الاستراتيجية، التي تحكم الآن معادلات الصراع في ليبيا، جعلت هذا التفاؤل يُصبح معكوسا لدى أغلب المُتابعين للشأن الليبي.
ويستحضر المتابعون على سبيل المقارنة لا غير، سياقات أجواء التفاؤل التي سادت في أعقاب اختيار فايز السراج رئيسا للمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق، بعد جولات حوارية مُتعددة تخللتها مشاورات ومفاوضات مُضنية عرفتها مدينة الصخيرات المغربية في العام 2015، وكيف تحول ذلك التفاؤل إلى “كابوس” استمر لأكثر من خمس سنوات.
معضلة تفكيك الميليشيات ونزع السلاح، أبرز ملفين أمام عبدالحميد الدبيبة ولا يبدو أنه قادر على إحداث اختراق لحلهما
ويُحيل هذا الاستحضار السياسي بحوافه التي تتجاوز في أبعادها مغزى هذا الإجماع في إشاعة “التفاؤل”، إلى جملة من الدلالات الأخرى التي تؤكد أن ما يتم تسويقه على أنه “تفاؤل” ما هو إلا تغطية سياسية.
ويهدف ذلك الأمر بالأساس إلى فسح المجال أمام “التهدئة” مؤقتا، وبغاية “الإيهام” بنجاح مهمة مبعوثة الأمم المتحدة إلى ليبيا ستيفاني وليامز، لإعادة الثقة في الأمم المتحدة، تماما مثلما حدث بالنسبة برناردينو ليون، الذي فرض السراج في 2015.
ومن خلف هذا “الإيهام” الذي يستهدف أيضا محاولة امتصاص غضب الشعب الليبي، الذي وصل إلى درجة من الاحتقان بات يصعب التكهن بمآلتها، برزت جملة من المفارقات التي تدفع بقراءات أخرى تُركز على أن ما حدث في اختيار عبدالحميد الدبيبة لرئاسةِ الحكومة الانتقالية يُقصد به تكريس الانقسام بين السلطة والشعب، بغطاء من التفاؤل المحكوم بمصالح القوى المؤثرة ميدانيا.
وليبيا منقسمة منذ العام 2014 بين إداراتين إحداهما في الشرق حيث توجد حكومة في بنغازي يدعمها الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، والأخرى في الغرب، حيث توجد حكومة الوفاق الوطني، ويرأسها السراج. ولكن اختيار شخصيات لتولي الحكومة الانتقالية والمجلس الرئاسي يشكل حدثا مفصليا في البلد الممزق.
كابوس حكومة الوفاق

في ظل هذه القراءة، التي بدأت تجد صدى لها داخل ليبيا وخارجها، لجهة محاولة الخروج من “كابوس” حكومة الوفاق، تحسب أنه لن يكون سهلا على الدبيبة وأعضاء السلطة التنفيذية الجدد، تفكيك عناصر هذا “الكابوس”.
وتدل كل المؤشرات الموضوعية على أن هذا الفريق الجديد سيصطدم في قادم الأيام بحائط الشروط والشروط المضادة، وبجملة من الإكراهات المحكومة بأجندات إقليمية ودولية مُتنافرة.
ووفقا لتلك المؤشرات، لن يجد الدبيبة ومن معه الأدوات الضرورية القادرة على تمكينه من تشكيل حكومته في الآجال المنصوص عليها، أي 21 يوما أولا، ومواجهة مناورات “التعطيل” ثانيا، وانتزاع ثقة البرلمان المنقسم ثالثا.
وهذا يعني أنه سينزلق قريبا وسط حلقة مُفرغة تُحيط بها الكثير من التحديات الجسيمة الأخرى التي تبدأ بسطوة الميليشيات، ولا تنتهي عند عقدة المرتزقة، بل إنه يصعب توقع تشكيل حكومة عادية تولد بطريقة سلسة، تُفرزها تسوية سياسية توافقية، أو عبر تنازل سياسي من هذا الفريق أو ذاك، باعتبار أن مثل هذه التسوية تتطلب حوارا يعتقد على نطاق واسع أنه ما زال مفقودا.
في مقابل ذلك، ما زال التنازل السياسي صعبا ارتباطا بموازين القوى، والتجاذبات المناطقية والقبلية، إلى جانب استحقاقات الانتخابات العامة المُرتقبة إن تم الالتزام بموعدها المُحدد.
تفكيك الميليشيات

ينظر إلى عقدة الميليشيات المُسلحة على أنها من أهم وأبرز التحديات التي ستواجه الفريق الحكومي الجديد، باعتبارها عائقا جديا وجوهريا بحاجة إلى إرادة سياسية قوية، وإلى تضافر جهود الجميع لإزالتها.
ويعتقد الكثيرون أن هذا العنصر غير متوفر على الأقل في هذه المرحلة، خاصة وأن تلك الميليشيات المنتشرة في الغرب الليبي، ليست في وارد التسليم بسهولة في سطوتها على العاصمة وغالبية مدن الغرب الليبي.
ويبدو ضربا من المغالطة أيضا توقع إمكانية تجاوز الدبيبة معضلة السلاح المنتشر في البلاد، الذي يقدر بأكثر من 23 مليون قطعة، وهي معضلة تعمقت بدخول سلاح جديد مُتطور سلمته تركيا إلى تلك الميليشيات، التي تعززت صفوفها بالآلاف من المرتزقة الذين أحدثوا خطوطا جديدة في خارطة الصراع، وفرضوا موازين القوى لصالح النفوذ التركي المُتنامي في ليبيا.
ووسط هذه الأجواء والمعادلات، لا نحسب أن الدبيبة قادر على الاقتراب من ملفات الميليشيات والمرتزقة، ومن النفوذ التركي، خاصة بعد تأكيد ياسين أقطاي مستشار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن “الحكومة الليبية الجديدة برئاسة دبيبة، تدعم الدور التركي في بلادها.. وأن الاتفاقيات التي عقدتها أنقرة مع حكومة السراج، لن تتأثر بانتخاب الحكومة المؤقتة”.
وزعم أقطاي أن “الاتفاقيات التي عقدتها تركيا مع حكومة الوفاق السابقة، والوجود العسكري التركي في ليبيا لن يتأثرا باختيار الدبيبة رئيسا للحكومة الجديدة”، باعتبار أن “تركيا تتواجد في ليبيا بدعوة من الشعب الليبي وحكومة الوفاق، وأن الحكومة الجديدة لا تعارض هذه الاتفاقيات ولا الوجود التركي في البلاد، بل على العكس تدعم الدور التركي هناك”.
وفُهم من هذه التأكيدات التي تستبق مُخرجات مسارات الحوار الأخرى السياسية والعسكرية، التي تتناول ملفات الوجود التركي والميليشيات والمرتزقة، على أنها رسائل من تركيا إلى الدبيبة بعدم الاقتراب من هذه الملفات التي من دون تسويتها لا يمكن الحديث عن انفراج أو تفاؤل بحل الأزمة الليبية، أو عن استقرار ميداني يُبعد شبح الاقتتال الداخلي.
وتدرك تركيا أن الدبيبة الذي أدرجه البرلمان الليبي في يونيو 2017 في لائحة تضم العناصر والكيانات المتهمة بالإرهاب، باعتباره ممولا للكتائب المسلحة الموالية والتابعة لجماعة الإخوان المسلمين، لن يقترب من تلك الملفات، ذلك أنه يُعد من المُقربين منها، حتى أن تقارير غربية أشارت في يناير الماضي إلى أن الرئيس رجب طيب أردوغان يدعم بقوة توليه رئاسة الحكومة خلفا للسراج.
وعلى قاعدة هذه المعطيات، يُرجح أن تبدأ أجواء الترحيب بالانحسار تدريجيا، ليتحول معها التفاؤل الذي أشاعته إلى تفاؤل معكوس، حتى لا نقول إلى تشاؤم، وسط خشية جدية تدعمها مُبررات كثيرة من أن يعرف المسار الحالي في ليبيا مصيرا مشابها لمصير مسار اتفاقية الصخيرات، بحيث تتحول حكومة الدبيبة المرتقبة إن تشكلت، حكومة تقطيع الوقت الضائع لتمرير المرحلة الانتقالية.