ناصر التركي سعودي رسائله تكتظ بالجمال

ما من فن يخلو من رسالة. مباشرة أو غير مباشرة. واضحة كانت أو غامضة، مقتضبة أو مستفيضة، فإن تلك الرسالة هي التي تهب الفن سمته الإنسانية، التي تضعه في قلب التحولات التي تشهدها الحياة.
لذلك فإن الفنان السعودي ناصر التركي، حين يلتفت إلى الوراء ليستعيد عالمه الفني، لا يجد عنوانا لعروضه أكثر انسجاما مع فكره من “رسائل” وهو الذي أقام معرضا بعنوان “رسائل في اتجاهين”.
ولأنه على يقين من أن كل ما يجده الفنان ساحرا وفاتنا وجذابا لا بد أن ينطوي على شيء من الجمال المثالي، فإن الفنان لا يضفي على ما يلتقطه من مشاهد أي عنصر يحسب على التزيين. لوحته كما عالمه الفني، تحضر مغمورة بفيض جمالي هو جزء من الرسالة التي يحملها الفن.
يمزج التركي بين حساسية جمالية عالية ووعي ثقافي مرهف وهو من خلال ذلك المزيج يضع فنه في قلب التحولات، التي يشهدها العالم من غير أن يلتفت إلى الأصوات، التي تتبنى الفصل بين المدارس والأساليب.
لقد اخترق بفنه الحواجز التي تفصل بين الواقع والوهم. ذلك ما ساعده على تطوير رؤيته الفنية، بما جعله قادرا على النظر إلى الواقع باعتباره صورة واحدة من صور الحياة وليس الحياة كلها.
كما لو أن التركي يرى من خلال مرايا متعددة، أن المسافات وكذلك الأماكن صارت تتسع وتضيق في سياق الحاجة الجمالية، وهو في ذلك إنما يفترض أن ما يقوله الفن هو الصحيح.
يتدخل في إعادة صياغة الأشكال حين يعيد النظر في علاقاتها، بعضها بالبعض الآخر، وليست لديه مرجعية سوى الرغبة في البحث عن انسجام مفقود في الحياة الواقعية. تلك محاولة تدخل في نطاق الرؤية الشعرية، التي تقع كما الصدمة لتترك وراءها ضربات من نور. وفي الجانب الأهم من تجربة هذا الفنان يقع السعي وراء النور باعتباره ضالة. فالرسام حين يفكك مشاهده ليعيد تركيبها بالطريقة التي تنسجم مع نطرته إلى الحياة، إنما يبعث الروح في عالم يفيض بالنور.
المتمرد على جغرافيا الجسد
ولد التركي عام 1971 في حائل، واستقر في ما بعد في الرياض. درس الفيزياء في الكلية التقنية، قبل أن يقيم معرضه الشخصي الأول الذي حمل عنوان “رسائل في اتجاهين” وشارك في معارض جماعية عديدة . ثم أقام معرضه الشخصي الثاني والذي كان بعنوان “السفر إلى النور”. أما “عرش الضوء” وهو عنوان معرضه الشخصي الثالث، فقد أقيم ما بين عامي 2010 و2011. شهد عام 2014 إقامة معرضه الشخصي الرابع “إشراقات”. “نيوترون” كان عنوان معرضه الذي أقامه عام 2018. أما آخر معارضه فقد حمل عنوان “رسائل” وأقامه عام 2020.
تكشف تجربة التركي عن خبرة مزدوجة أساسها الحساسية الجمالية والمعرفة العلمية. وهو من خلال ذلك توصل إلى رؤية فنية لم يكن الأسلوب هدفا لها بقدر ما كانت نوعا من المسعى في اتجاه تجديد طريقة النظر إلى العالم ومعالجة مفرداته باعتبارها لقى نادرة. لقد قادته تلك الرؤية إلى إقامة عالم مجاور، يمكن التنقل فيه بخفة بين طبقات من الضوء. كانت تلك وسيلته لتحرير المفردات من آثار عالمها القديم ليخترق بها عالما يظل قيد التشكل. يتحد الرسام بالطبيعة لا من أجل أن يرسمها، بل من أجل أن يتمكن منها ويعيد تركيبها وإنشاءها من جديد. ومن الطبيعة انتقل إلى الجسد.
كانت جغرافيا الجسد طبيعة أخرى مكنت الفنان من التنقل بين ممارسة النظر الحسية ومتعته الإلهامية. كان لديه دائما اتجاهان، ينظر إليهما ويستلهمهما ويتعرف من خلالهما على ما يطرأ على تجربته من تحولات جوهرية. هل سيكون علينا أن نتوقف عند مفهوم الزمن مثلما يراه الرسام؟ ما أن يرى المرء لوحات التركي حتى يفكر بالزمن.
المرأة سيدة للإيقاع
يخلق التركي زمنه المضغوط القابل لأن يتسع ويضيق، حسب ما تمليه عليه المسافة التي يجتازها، وهو يصنع أشكاله التي تقع في منطقة يفصلها عن الطبيعة حاجز شفاف.
يمكنه أن يكون موجودا في اللحظة التي يفكر المرء فيها بطريقة إشراقية. غير أن الصورة هي المشكلة. التركي يحارب الصورة بخيالها. إنه ينظر إلى الطبيعة من خلالها ليكتشف تجلياتها الداخلية. ما الذي نراه من خلالها. فهو بسبب تخصصه العلمي يحرص على أن يعرفها من الداخل. غير أنه بسبب ذلك التخصص أيضا، يعرف أن هناك كونا عظيما لم تصل عطاياه الجمالية بعد. وفي المقابل فإنه يفكر في المصغرات التي لا ترى بالعين المجردة. هناك حيث يقيم عالما متكاملا.
في “نيوترون” قال كلمة صادمة. وهي كلمة يمكن اعتبارها افتتاحية. لم يكن المقصود بتلك الكلمة ذلك المفهوم الفيزيائي المتداول بل المرأة. بسحرها وعذوبتها، ولذة النظر إليها، وعمق المعنى الذي ينطوي عليه وجودها، والإيقاع الذي يرتبط بمشيتها ورشاقة خطاها. ذلك الإيقاع الذي يموسق الرؤية إليها ومن خلالها.
هذا الرسام هو رجل أحلام أيضا. يحلم في أن يرى العالم جميلا، غير أنه في الوقت نفسه يسعى إلى أن يضفي شيئا من الجمال على العالم. وهو لذلك يستأنف علاقته بالأشياء من جهة الإيقاع الذي ينبعث منها.
تجريدي بعمق
في الكثير من الأعمال التجريدية، يخفي التركي مصادر إلهامه. يكتفي بأن ينفرد بما صار ملك يديه وهما تتخيلان. خيال يديه يهبنا صورا مدهشة تضعنا في مواجهة عالم ينفجر. وهو عالم غزير بأنوثته. تظل المرأة بالنسبة إليه سؤالا وجوديا عميق المعنى. نراقبه وهو صانع التجربة والماشي بها إلى أقصى نتائجها، ليعيدنا إلى مناطق مترفة ورخية من إنسانيتنا. تجريديته ليست باردة. إنها تصفنا من الداخل فسياق ما تفعله مع الطبيعة حين تصفها بالطريقة نفسها وتظل حريصة على ألا ينقطع الخيط الرفيع الذي يصلها بها. الكثير من الأنوثة في لوحات التركي، غير أنها أنوثة راقية ومترفة وتتحدى بخيالها الواقع.
كل عالم التركي يتميز بالإيقاع. هناك شيء ما يرقص داخل اللوحة. ولن يكون المرء حين يشاهد لوحاته قادرا على الإفلات من الإنصات إلى الموسيقى. لقد تمكن ذلك الرسام من الوهم وصار من خلاله يبعث أشكاله وأفكاره أيضا. “أنت ترى ما أرى وعليك أن تسمع ما أسمع” ذلك ما يمكن أن يقوله الرسام للمتلقي مطمئنا.
صارت العلاقة بين الرسام والمتلقي قائمة على أساس الشراكة في الذهاب إلى المستقبل وأيضا في الانصات إلى الموسيقى. لقد أشرك الفنان الحرف العربي في تلك العلاقة بطريقة جذابة كما لو أنه صنع من خلاله أشكالا تتشبّه بجسد المرأة. كل الإيقاع هناك. على المتلقي هنا أن يقرأ الجسد. شيء من هذا القبيل حاول الرسام أن يقوله.
هو رسام تجريدي بعمق، غير أنه لم يتخل عن طريقته الباذخة في النظر إلى الإنسان. عميق في إنسانيته حين يتّحد مع الطبيعة ليراها في مراياه ويستخرج منها صوره. إنه يعيد ابتكارها ليعلن من خلالها أنه قد تعلم شيئا جديدا، شيئا سيعينه على تحمل عذاب الرسم. التركي لا يرسم من أجل أن يقنع الآخرين بأنه يجيد الرسم بل من أجل أن يصدمهم بحقيقة أن الرسم يحيلهم إلى عالم لم يتعرفوا عليه من قبل. الذهاب إلى ذلك العالم هو نزهته، التي يتمكن فيها من تحويل الأشياء العادية إلى مفردات نفيسة.