لا حلّ لإنقاذ البشرية والأرض إلا بتدمير الميغاماكنة

منذ خمسة قرون، ابتكر الغرب منظومة اقتصادية جديدة هي النظام الرأسمالي، وفرض بها هيمنته على سائر الشعوب، ولكي يشبع شرهه للهيمنة، أمعن في تدمير البيئة واستنزاف الموارد، ووضع البلدان الضعيفة تحت جزمته، من خلال بنوك وصناديق دولية ما انفكّت تنهب خيرات البلدان الضعيفة وتستغل طاقاتها ومواردها، وأعدّ من الآلات ما يدمّر كوكب الأرض في طرفة عين، وباتت الحضارة الغربية نفسها مهددة بالسقوط. فهل صار الحل رهين تدمير هذه الآلة الجهنمية لإنقاذ الأرض من الدّمار؟
تجتاح العالم اليوم فوضى اقتصادية وبيئية وصحية، والمحللون يتنافسون في تفسير أسبابها الراهنة أو القريبة ويرجعونها إلى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولكن الباحث الألماني فابيان شيدلر يذهب أبعد من ذلك، ويردّها إلى بداية الأزمنة الحديثة.
في كتابه “نهاية الميغاماكنة – على خطى حضارة تسير إلى الانهيار”، الذي صدر في ألمانيا عام 2015 وصدرت ترجمته الفرنسية مؤخرا، يقدم شيدلر قراءة جديدة للتاريخ تخالف التاريخ الرسمي المؤسطر، تاريخ المنتصرين الذي يُتداول في المدارس والكلّيات ويعلّم روادها أن الحضارة الغربية أسمى ما بلغته الإنسانية، ليبين كيف تضافرت مساعي الدولة وأرباب المال لاستنزاف الموارد ونشر الدمار في العالم، حتى صار الخطر يهدد بزوال الإنسانية نهائيا، ويؤكد أن هذه الحضارة “هي أول من ابتكر عدة أساليب لإلغاء الحياة من وجه الأرض”.
قوة مدمرة
في هذا الكتاب، الذي أثنى عليه عدد من المفكرين اليساريين أمثال الأميركي نعوم تشومسكي، والسويسري جان زيغلر، والهندية فاندانا شيفا، استعمل شيدلر استعارة الميغاماكنة لتصوير هذه الآلة الجهنمية التي ابتكرها الغرب لإخضاع الأرض ومن عليها وما فيها، وهو مصطلح صاغه المؤرخ الأميركي لويس مامفورد (1895-1990) قبل خمسين عاما، كنعت للمنظومة الرأسمالية، ليبين أنها ليست اقتصادية فحسب، إذ قامت على تحالف بين الدولة العصرية المجيّشة التي ظهرت في القرن السادس عشر، والمؤسسات التي جُعلت لمراكمة رأس المال، والتي ضمنت السلطةُ احتكاراتها.
ويفضح شيدلر السلطة الأيديولوجية التي غرست في الأذهان أسطورة الغرب كحضارة تسمو على كل الحضارات الأخرى، فيما هي أوجدت ما أسماه “الميغاماكنة” كاستعارة لتنظيم اجتماعي جعل من البشر مجرد دواليب كما هي الحال في الاسترقاق وظهور اليد العاملة التي كان يطلق عليها “العبودية العاملة”، والغاية الوحيدة منها هي تنمية المال المستثمر. ولا يختلف العامل البسيط في هذه المنظومة عن مدير مجموعة كبرى، فكلاهما يخضع عن وعي أو غير وعي لأداء وظيفة داخل هذا التشابك، لأن الغاية الوحيدة هي زيادة مرجوع المساهمين وغلتهم، وإن أخفق أو أبى لفظته الماكنة.
السلطة الأيديولوجية التي غرست في الأذهان أسطورة الغرب كحضارة تسمو على كل الحضارات جعلت البشر مجرد دواليب
وفي رأي الباحث الألماني، أننا نخطئ حين نردّ أسباب التفاوت والأزمة الاقتصادية والأيكولوجية إلى النيروليبرالية وحدها، لأنها ليست سوى طور من أطوار منظومة مدمّرة، أقدم منها، وردّة فعل على صعود حركات الاحتجاج التي ظهرت في الستينات، حين تبنت عدة دولٍ الاشتراكية، فقد تميزت تلك الفترة بثورة شاملة أربكت أسس المنظومة، على شتى المستويات الثقافية والاقتصادية والسياسية، فكانت النيوليبرالية ردّا على تلك الحركات بهدف إعادة نفوذ الطبقات العليا، التي كانت تخشى انهيار المنظومة، أي أن النيوليبرالية هي في الواقع ثورة مضادّة، تجد جذورها في نشوء الرأسمالية منذ خمسة قرون. هذه المنظومة التي أضرت بالبشر والبيئة والكائنات الحية كلها، ووصلت بالإنسانية إلى مرحلة صارت تخشى فيها زوالها بجرة قلم.
وغير خاف على أحد أن أكثر ما تخشاه البشرية اليوم هو زوال الحياة على وجه الأرض، فمنذ انفجار أول قنبلة ذرية عام 1945، صار هذا السيناريو ممكنا، ومحتملا، بل هو طوع اليد، يكفي أن يضغط أحد مجانين هذا العالم على الزر حتى يتلاشى الكوكب كله. ولكن ثمة سيناريوهات أخرى لا تقل عن السلاح النووي خطورة انضافت إلى ذلك الخطر الأكبر، ونعني بها الاختلال المناخي الحادّ، وتسارع انقراض الأنواع الذي أحدثته الحضارة الصناعية، وظهور أجسام اصطناعية وأوبئة
يعجز الإنسان عن مواجهتها والتحكُّم فيها.
لا جدال أن العنف قديم قدم وجود الإنسان على الأرض، فقد توالت منذ سالف العهود عدة حضارات عنيفة ومدمرة، بظهور المنظومات الأولى للهيمنة في بلاد الرافدين وفي مصر الفرعونية وسواهما، ولكن ما من حضارة منها بلغت ما بلغته الحضارة الغربية من قوة تدمير.
المفارقة أن هذه الحضارة، التي تجتاح الكون كله بفضل الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة والعولمة، تعتبر نفسها ذروة ما بلغته الإنسانية عبر تاريخها الطويل، فهي التي يُنظر إليها، من داخلها خاصة، كمصدرٍ لفكر الأنوار ونموذجٍ للديمقراطية ومثالٍ للرخاء والازدهار، وتُقدَّم سيرورتها كمسار أمثل قاد إلى السلام والرفاه والثقافة، ومنحها مهمة إنقاذ العالم من أدوائه، بدعوى أن ما يميزها من عقل وتقدم وتطور وسوق حرة سيجعل ذلك ممكنا.
ولا يُنظر إلى القوى المدمرة التي خلقتها تلك الحضارة وجعلتها تهدد مستقبل الحياة على الأرض إلا كأحداث طارئة، سادت ثم بادت، وليست من جوهر تقاليدها وفكرها وتاريخها.
لفهم جذور التدمير الحالي، يقول شيدلر، ينبغي تجاوز أسطورة الغرب والحداثة. فلئن زعم بعض المؤرخين أن التوسع الغربي عاد بالثراء على جانب من شعوب الأرض، فإنهم لا يمكن أن ينكروا أن تاريخ الغرب الأوروبي شكّل منذ بدايته سلسلة من حروب التطهير العرقي. فبالنسبة إلى الشعوب الأميركية الأصلية مثلا، كان قدوم الغزاة الأوروبيين نهاية العالم في نظرهم، فالمجازر التي ارتكبها الإسبان وفرض منظومة الأشغال الشاقة، أزهقت جانبا كبيرا من الأرواح، وفتّتت وأتلفت عددا من الثقافات الضاربة في القِدم.
ولم يكن الوضع أحسن حالا في أميركا الشمالية وآسيا. أما المجتمعات الأفريقية فقد دمرها الاسترقاق والاستعمار. يكفي أن نذكر الرعب الذي فرضه النظام البلجيكي في الكونغو حيث أبيد نحو عشرة ملايين من الأهالي دون أن يحاسب عن تلك الجرائم أحد، بل إن تماثيل السفاح ليوبولد الثاني لا تزال تحتل الميادين والساحات العامة، كبطل فرض بلاده الصغرى في محفل الدول الاستعمارية الكبرى، وأسبغ على شعبه الثراء والرفاه.
ماكنة اقتصادية
المفارقة الثانية أن كتب التاريخ تصف القرون الوسطى بالرعب والظلامية، ولكن التعذيب ومحاكم التفتيش ومطاردة الساحرات والحروب لم تبلغ أوْجَها في تلك القرون كما يروّج أنصار أسطورة الحداثة، بل حدثت في الأزمنة الحديثة مع ظهور المنظومة الرأسمالية. ففي أوروبا خلال القرن السابع عشر، كان لسطوة الدولة وبطشها بالفقراء والمعارضين، لأسباب اجتماعية أو سياسية أو عقدية، ما حوّل القارة كلها إلى مسرح دامٍ.
وإذا كان الشرّ قد ضرب جانبا كبيرا من شعوب العالم، فإن الشرّ القادم سيصيب الإنسانية كلها والكرة الأرضية قاطبة، ولئن بدا وشيكًا، فإن تجنّبه لا يزال ممكنًا. لتجنب هذا الشرّ، الذي يعني فناءنا النهائي، ينبغي فهم جذوره، وذلك ما ينهض به شيدلر في هذا الكتاب، بتوجيه إصبع الاتهام إلى المنظومة التي تشكلت منذ نحو خمسة قرون في أوروبا، والتي عرفت بأسماء مختلفة كـ”منظومة العالم الحديث” أو “الرأسمالية العالمية” أو “الميغاماكنة”، وتقوم أساسا على مراكمة لانهائية لرأس المال، أي استثمار المال في حلقة أبدية من الربح وإعادة الاستثمار.
إذا كان الشرّ قد ضرب جانبا من شعوب العالم سابقا، فإن الشر القادم سيصيب الإنسانية والكرة الأرضية كلها
هذا المبدأ يندرج في صميم المؤسسات الاقتصادية الأكثر قوة ونفوذا في العالم، وهي شركات مساهمة تأسست منذ أربعة قرون، ويبلغ عددها حوالي خمسمئة من كبرى المجموعات في العالم، وهي في عمومها شركات خفية الاسم، تسيطر على أربعين في المئة من ناتج الدخل الخام العالمي وثلثي التجارة في العالم.
هذه المؤسسات ليس لها، في شكلها القانوني، غير هدف وحيد: زيادة رأس مالِ المساهمين، بأي ثمن، ولو كان في ذلك نهاية وجودنا على الأرض. فما تنتجه من بضائع، من سيارات أو أدوية، ولعب أطفال أو رشاشات، وعلف أو كهرباء، هي وسائل متعاوضة، أي يعوّض بعضها بعضا، لأجل هذا الغرض.
وكلما لبّت منتجاتٌ معينةٌ الطلب، حرصت تلك المؤسسات على خلق طلبات جديدة، وفق استراتيجيا تقوم على تحويل المواطنين إلى مستهلكين، يقتصر دورهم في الحياة الاجتماعية على شراء الأشياء الجديدة، أيّا ما تكن. هذا المنطق هو المحرك المركزي للتوسّع الشرس والنمو المستمر اللذين تحتاج إليهما المنظومة كي تضمن بقاءها واستمرارها، حيث يغدو هوس خلق أسواق جديدة، وتيسير الوصول إلى مصادر الطاقات الجديدة بأي وسيلة، وتعزيز استغلال الفضاءات الطبيعية وتوسيعها مسائل حيوية لا يمكن التراجع عنها في أي حال من الأحوال، بل إنّ كل استراحة أو تعديل أو تخفيض في سرعة الإنجاز هي بمثابة أزمة أو انهيار.
وما كان لتلك الماكنة الاقتصادية أن توجد لولا سند آخر يدعمها، ويتمثل في الدولة العصرية التي تطورت بالتواصل والتنافذ مع رأس المال. ففي بداية الأزمنة الحديثة، كانت الدولة كمؤسسة عسكريةٍ صرف تتطور في تناغم تام مع رأس المال، وكان الملوك يتداينون لدى التجار وأصحاب البنوك لشراء الأسلحة وجيوش المرتزقة التي يعتمدون عليها لبسط نفوذهم، حيث تمنح البنوك الملوك قروضا حتى يتمكنوا من غزو البلدان الأخرى ونهب خيراتها، فتُستخدم الغنيمة كعائد استثمار للدّائنين. ذلك كان محرك الحروب التي ما فتئت تنشر الرعب في أوروبا، بوسائل تتطور عاما بعد عاما، وهو أيضا محرك الاستعمار والاستعباد والتصفية العرقية خارج أوروبا.
اليومَ اكتسى هذا التناغم وجها آخر، حيث لم تعد أغلب المجموعات الكبرى في العالم قادرة على الاستمرار دون تمويلات ضخمة من الدولة، وقد أشارت أرقام صندوق النقد الدّولي إلى أن الدول تموّل الطاقات الجوفية بنحو خمسة بليون دولار كل عام، ما يعني أن دافعي الضرائب يمولون تدمير كوكبهم، للمحافظة على أرباح صناعة الطاقات الجوفية.
وقس على ذلك قطاعات أخرى، كصناعات السيارات والطائرات والأسلحة والبنوك الكبرى والزراعة الصناعية. ولا يمكن تجنب المخاطر، حسب شيدلر، إلا بتفكيك الميغاماكنة وتعويضها بمؤسسات اقتصادية لا تخدم الريع بل الصالح العام، ما يحتّم عندئذ تغيير أساليب الدولة وفصلها عن رأس المال، حتى يتم الانتقال من طور إلى طور.
يقول الباحث الألماني “نحتاج اليوم إلى برنامج انتقال أيكولوجي واجتماعي لا يعوض الطاقات الجوفية بطاقات مستدامة فقط، بل يحوّل أساس حضارتنا”.
قد يبدو هذا البرنامج غير واقعي، ولكن المنظومة التي قادت الإنسانية إلى شفير الهاوية بدأت تترنح، فالأزمات (الاقتصادية والوبائية والأيكولوجية والمالية) ما انفكت تتكاثر، وكل أزمة تضعنا أمام خيارات جديدة.
عندما تنهار المؤسسات القديمة، ويصاب القادة السياسيون والاقتصاديون بالهلع، وتتصدّع أسطورة الغرب الكبرى، يمكن للحركات الاجتماعية والأيكولوجية وكل المواطنين الملتزمين بالدفاع عن وجودهم أن يؤثروا في القرارات، خصوصا إذا كانت صفوفهم منظمة، قابلة للتحالف مع قوى تقدمية أخرى تعزز توجهاتهم. سوف ينتج عن ذلك لا محالة فوضى قد تدوم سنين، ولكن ذلك التحول سوف يفرز مجتمعا أكثر عدالة، يحسن التعامل مع الطبيعة بدل تدميرها. وإلا فإن الإنسانية سوف تنساق إلى انهيار كامل.
فلا حلّ لإنقاذ البشرية والأرض التي تعيش عليها، يقول شيدلر، إلا بتدمير تلك الميغاماكنة.