الفرنسي هنري لانديي يعرض آخر لوحاته عبر يوتيوب

معرض يشمل خمسة وخمسين عملا بعدد أيام الحجر التي قضاها هنري لانديي في مرسمه بهضبة مونمارتر الشهيرة.
الاثنين 2020/12/14
لوحات تطفح بفرحة الحياة

في انتظار رفع الحجر الصحي، يحاول الفنانون الفرنسيون ألّا ينقطعوا هم أيضا عن العالم، ولو باستعمال منصات التواصل الاجتماعي. وهو ما فعله الفرنسي هنري لانديي الذي ارتأى أن يعرض لوحاته الأخيرة عبر يوتيوب.

طوال فترة الحجر الصحي الأولى التي دامت خمسة وخمسين يوما، لزم الفرنسي هنري لانديي مرسمه بهضبة مونمارتر حيث استقرّ منذ مطلع الخمسينات، يرسم ويعرض على أصدقائه وعشاق فنه لوحاته عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويبادلهم الآراء، دون أن يضيق بالعزلة، لأنه يعتقد أنها رفيقة الفنان، يحتاج إليها لمزاولة عمله، حتى وإن كان العالم من حوله يمور بالأحداث، كما هو الشأن خلال هذه الجائحة التي عطّلت كل شيء.

ويضرب مثلا على ذلك بالهولندي يوهانس فرمير الذي انقطع عن العالم من حوله برغم فظائع حرب الثلاثين عاما (1618-1648) واعتكف في مرسمه ليبدع مشاهد داخلية روحانية هادئة.

واستعدادا لرفع الحجر الثاني في نهاية هذا الشهر، وترغيبا لهواة فنه في الاطلاع على ما سوف يحويه معرضه القادم، في حالة تعذّر تنقّلهم، بادر لانديي بنشر ملامح منه عبر يوتيوب، بالصوت والصورة.

وقد شمل هذا المعرض المرتقب خمسة وخمسين عملا بعدد أيام الحجر التي قضاها في مرسمه، قام بتعليقها في رواقه الخاص بنهج لوبيك في مونمارتر.

هذا الرواق الذي اعتاد أن يعرض فيه أعماله مرتين في السنة منذ أعوام طويلة، فلانديي ليس فنانا مقيما في المنطقة فحسب بل هو رمز من رموزها، وآخر فنان “حقيقي” في هذه الهضبة التي اكتسحها منذ أعوام فنانو البورتريه بساحة التلة الشهيرة.

هنا خالط كبار المغنين أمثال جاك بريل، وليو فيري، وجورج براسنس ومونيك موريلّي، ومشاهير الفنانين أمثال بيكاسو، وتولوز لوتريك، وأتويلّو وجين بول.

 الفنان الفرنسي يحترف الجمع بين اللون والضوء بمهارة، ليحمل زواره إلى مخيال يجمع بين الملموس والعجيب

ولئن ارتبط اسمه بمونمارتر، فإنه شاع أيضا خارج الحدود حيث حاز شهرة عالمية، بفضل عمل دؤوب بدأه منذ سنّ العاشرة، حين انبهر بلوحات رمبرانت في متحف اللوفر، وراح يقلّدها، ثم يستوحي منها إبداعاته، قبل أن ينأى عنها ليحفر مجراه، ما جعله يقيم أول معرض له في سنّ الرابعة عشرة.

ولكنه أدرك باكرا حاجته إلى مرسم خاص، فالتحق بالبحرية التجارية عند بلوغه سنّ السابعة عشرة، وعمل بها خمس سنوات ليعود إلى وكره، ويقتني محلا بطابقين جعله ورشة عمله وإقامته. وقد أنجز منذ عودته نحو أربعة آلاف لوحة وألفي منقوشة باستعمال الخشب والنحاس والحجر، وتراوحت ثيماتها بين حياة الليل في مونمارتر وملاهيها، والمدن التي زارها، من المرافئ الفرنسية إلى مدن أوروبية كثيرة كالبندقية وبراغ وماستريخت، إلى جانب المناظر الطبيعية والمسارح والبورتريهات. وأغلبها موجود اليوم في أروقة المتاحف الأوروبية والأميركية واليابانية.

فمن رحلاته البحرية في شبابه، حيث داوم رسم الموانئ والسفن والملاّحين، إلى لوحاته عن المدن التي زارها، مرورا ببعض المناظر الطبيعية في جنوب فرنسا وخاصة جبل سانت فيكتوار أو مون فنتوري بلهجة أهالي إيكس أن بروفانس، ما انفك فنه يتطوّر ويتّخذ سمة إنسانية لينتهي إلى بعض مشاغل الفنان الرئيسية، ولاسيما الحياة.

ورسم الحياة بالنسبة إليه معناه الولوج إلى الأرواح، حيث تبرز خلف كل لوحة يبدعها محاولة للإمساك بخبايا النفس البشرية وسبر أعماقها، في سعي منه لجعل فنه إنسانيَّ المنحى، وما عنوان معرضه الجديد “الفنان الإنسانيّ” إلّا تأكيد على هذا المسعى.

تناسق الألوان والأشكال
تناسق الألوان والأشكال

ويحتوي معرضه الحالي على خمسة وخمسين عملا فنيا هي خلاصة إنتاجه في الأعوام الأخيرة منذ مطلع الألفية، يقدّمها في رواقه المغمور بالنور الطبيعي، المزدان بأنواع من الخضرة والأزهار جعلها صدى للوحاته التي تطفح بفرحة الحياة، وتفاؤل بالآتي رغم مآسي الراهن.

فهو من الفنانين الذين احترفوا الجمع بين اللون والضوء بمهارة، ليحمل زواره إلى مخيال يجمع بين الواقع والحلم، الملموس والعجيب. هنا مناظر بحرية تبدو فيها السفن وكأنها لا تمخر الماء بل حقول القمح وسط غيوم من الأمواج المزبدة، وهناك مشاهد صناعية تظهر فيها المصانع البعيدة وكأنها ملتحمة بجسور باريس.

ثمة أيضا صور عن أوجه ملتبسة سعيدة أو عاشقة أو مهمومة تعبيرا عن نوازع الحياة واختلافها. كذلك اللقاءات والصداقات والضحكات والأحزان كمشاهد حية أو متخيلة عن واقع الإنسان في هذا الوجود. وكلها بانوراما عمّا أنجزه في الرسم الزيتي والمائي والحفر والنقش في الأعوام الأخيرة.

ولئن بدت أعماله الأولى متأثرة بسابقيه مثل اللمسة الخطوطية لتولوز لوتريك، أو الأصباغ وحيدة اللون لفان غوخ، فإن لانديي استطاع أن يختط لنفسه أسلوبا يميّزه، يقوم على فروق تحفل بالحياة، دون أن تكون ساطعة، ومناظر يمتزج فيها تناسق الحياة بجانبيها الوديع والحارق، كما فعل ماتيس في “الغرفة الحمراء”، وسيزان في “جبل سانت فيكتوار”، و”باب فيلا لوبوسكي” لبونّار.

وإذا كان بعض فناني جيله يرسم لغاية محددة أو لتبليغ رسالة، فإن هنري لانديي يرسم ليضيء الأيام بنور مشرق يزيّن العالم، ويوقظ الحساسيات من سباتها، ويمنح الناس أنفاسا جديدة في هذه المرحلة التي اختنقت فيها الصدور، وتحويل الأنظار إلى ما هو جميل في الحياة.

بورتريه يجمع بين الواقع والحلم
بورتريه يجمع بين الواقع والحلم

 

16