"دوقة أمالفي" تستعيد مأساتها في عرض افتراضي

المسرحية تتجلى فيها مفارقات عجيبة بين نور وظلمة، ضوء وظلّ، روح وجسد، حبّ وقتل، سخاء ومكيافيلية.
الاثنين 2020/12/07
امرأة اختارت الحب فكان مصيرها الموت

بعد عودة الحَجر الصحّي إلى فرنسا عاد رجال المسرح يستنبطون سبل التواصل مع جمهورهم. وقد اختار غيوم سيفراك شميتز نقل مسرحيته “دوقة أمالفي”، المبرمجة على خشبة مسرح شاتيّون خلال الأيام الماضية، عبر فيسبوك ويوتيوب في بثّ مباشر.

بعد “رتشارد الثاني”، اقترح المخرج الفرنسي غيوم سيفراك شميتز نصّا لعلَم آخر من أعلام المسرح الإليزابيثي هو جون ويبستر (1634-1578) الذي كان علامة بارزة في القرن السابع عشر إلى جانب شكسبير ومارلو. بل إن مسرحيته “تراجيديا دوقة أمالفي” التي صارت تعرف بـ”دوقة أمالفي” فقط، كانت سبّاقة في تناول قضية المرأة وتمرّدها على سطوة المجتمع الذكوري والسلطة الدينية.

فقد ألفها ويبستر ما بين عامي 1612 و1613، وعرضت أول مرة في أحد المسارح اللندنية عام 1614، ولأنها تدين سطوة الكنيسة الكاثوليكية والمجتمع الذكوري الباتريركي، لم تنل حظها من الحضور في المسارح الأوروبية، رغم أهمية مواضيعها المطروقة وأسلوبها الشاعريّ الراقي.

كما في المسرح الشكسبيري، تفاجئنا هذه المسرحية بحداثتها وراهنيتها، فهي تسرد حكاية امرأة تتحدّى هيمنة الذكور وتختار أن تعيش حياتها كما تهوى، مع من تحبّ، ولكن المجتمع الذكوري لا يمكن أن يقبل بخروج امرأة عمّا سطّره لها دون أن يردّ الفعل، وبعنف شديد.

وهي مستوحاة من أحداث واقعية جرت قبل ذلك التاريخ بقرن في بلدة أمالفي جنوبي نابولي، حيث أقدمت جان داراغون، دوقة أمالفي، على الزواج سرّا من أنطونيو بيكّاديلّي دي بولونيا.

تروي المسرحية إذن حكاية أرملة شريفة من وسط بورجوازي، أحبت مدير شؤونها أنطونيو ورامت الزواج منه، فتعلّل أخواها فرديناند دوق كالابريا، وتوأمه الكاردينال بأن أنطونيو ليس من مقام الأسرة، وأن الأعراف والتقاليد والديانة الكاثوليكية تمنع هذا الزواج، ولكنهما في الواقع كانا لا يريدان التفريط في الإرث لغريب.

واجتمعت في هذه المسرحية كل نزوات الإنسان، فهي تعرض قصة حبّ جنوني بين أرملة شابة ثرية، ورجل جُعل في خدمتها، وما تلبث قصة الحب تلك أن تتحوّل إلى تراجيديا، حين عارض أخواها المولعان بالنساء تلك الزيجة، وقررا الانتقام، بعد أن علما أن أختهما تحدّتهما وتزوّجت سرّا وأنجبت ولدين.

حياة عشق تحوّلت بأيدي البشر إلى مأساة في عالم مريض يسكنه الشر والفساد والعذاب والانحراف والقسوة

استنجدا بالجاسوس بوسولا، فاستطاع أن يعرف من الدوقة نفسها، وهي التي ائتمنته على سرّها مثلما ائتمنت خادمتها رويلا، نّيتَها الرحيل، وهي لا تدري أنه يعمل ضدّها، فآل بها أمرها هي وولداها ثم زوجها إلى الموت على يدي الخائن بوسولا، الذي سوف يلقى حتفه هو أيضا بتدبير من الكاردينال، هذا الأخ المنحرف الذي لم يتألم لمقتل أخته حبّا فيها، بل لأنه كان يمنّي النفس بارتكاب زنى المحارم معها. في النهاية لن يسلم من الموت أحد سوى ديليو، صديق أنطونيو.

ورغم أن المسرحية مستوحاة من حوادث حقيقية، فإن المتفرّج لا يجد نفسه أمام أحداث أو وقائع تاريخية، بل في صميم حميمية واقعية، يتابع ما يمكن أن تستبطنه الشخصيات من حساسية وعمق وإنسانية ونقائص، وما يعتمل داخلها من فضائل ورذائل. فهي وإن توسّلت بأساليب التفخيم والتعظيم، تظل مركّزة على سبر أعماق النفس الإنسانية وما تحويه من متناقضات، لتطلع المتلقي على ما يمكن أن يضمره هو أيضا في أوضاع مماثلة، ومجتمع لا يزال ينظر إلى
المرأة نظرة دونية، ويسلبها حقوقها الطبيعية.

ذلك أن رهان المسرحية مسكون بعمودية مدوّخة تتبدّى فيها المشاعر بكامل ألوان الطيف، وتتجلى في مفارقاتها العجيبة بين نور وظلمة، ضوء وظلّ، روح وجسد، حبّ وقتل، سخاء ومكيافيلية.

هي حياة عشق تحوّلت بأيدي البشر إلى مأساة في عالم مريض يسكنه الشر والفساد والعذاب والانحراف والقسوة، حتى ليكاد المتفرّج يشمّ رائحة الدم والجثث المتعفنة، حيث تنهش الشخصيات بعضها بعضا بغير رحمة. في هذا الكرنفال القاتل، اختارت الدوقة الحياة، وتحدّت أخويها فوضعت نفسها في مواجهة التسلط البطريركي والسياسي والديني.

في المسرحية نقد للهيمنة الذكورية والكنيسة الكاثوليكية، وفيها أيضا مفارقات النفس الإنسانية حيث تتجاور القيم السامية والأعمال الدنيئة، وتتصارع الرغبات والأهواء فيخيّم شبح الموت قبل أن يزهق أرواح الجميع. هي قصة حب تتحوّل إلى تراجيديا بسبب أنانية الإنسان وأطماعه، ورغبته في السيطرة على كل شيء، حتى المشاعر.

يقول شميتز “هذه التحفة الفنية للمسرح الباروكي أتاحت لي الفرصة لتمديد ميول فنية بدأت مع المسرحي وجدي معوض، حين اشتغلنا على مسرح شكسبير حيث كانت ثيمة السقوط في صميم القصص. هذه المسرحية، التي اكتشفتها عندما كنت طالبا في المعهد الوطني للفنون المسرحية بباريس، لا تخرج عن تلك القاعدة”.

ويضيف “إخراج ‘دوقة أمالفي’ يجب أن يشارك في إبراز المسرح الإليزابيثي، الذي غيبّته عبقرية شكسبير وفرادته.. إنه مسرح شامل، تمّت مقاربته وبناؤه بطريقة يكون فيها كل شيء في حالة حركة، ويكون للغة والأصوات طابعٌ موسيقيٌّ خاص، ويكون شغف الممثلين والخيال الشعري حاضرين يغزوان الخشبة بأكملها. ولأنه مسرح شامل، فكل شيء ممكن، ولئن تعلّقتُ شخصيّا بهذا الشكل من السرد، فلأنه يروي القصص، قصص الحياة

16