السوري طالب عمران: أدب الخيال العلمي أدب المستقبل

كان لوجود أدب الخيال العلمي تأثير هام على حركة الأدب في أي حراك ثقافي على مستوى العالم، فكما أي شكل أدبي آخر يمتلك أدب الخيال العلمي كجنس أدبي خصائص يتفرد بها وملامح تجعله متطورا يوما بعد آخر. البعض يرى فيه أدبا قديما وجد في الأساطير والحكايات، والبعض الآخر يجعله حديث النشأة والوجود، وآخرون لا يولونه اهتمامًا. فما هي ملامح أدب الخيال العلمي في عالمنا العربي؟ وهل اعترفت به الثقافة العربية؟
كثيرا ما تتردد على ألسنة أهل الثقافة العربية عبارة أدب الخيال العلمي، الذي نشأ كما في العالم في إطار قصصي، ثم توسع في أشكال إبداعية موازية ليصل إلى السينما والتلفزيون والإذاعة وحتى الرسم. البعض من أهل الثقافة العربية يعتبره فنا تسلويا يقدم التشويق والإثارة فحسب، والبعض ينزل به إلى درجة التدليس والعبث، بينما يضعه آخرون في مصاف الفكر العلمي المستشرف، المعتمد على آخر منجزات العلم والتقنية.
يعرّف المختصون أدب الخيال العلمي بأنه الذي ينتقل بالمتلقي بين الأزمان مخترقا إياها ومتسلحا بأحدث المعارف والمكتسبات العلمية. فيصل إلى معالجات وتنبؤات مدهشة فيها معالم الاستشراف. وتعتبر قصة “خمسة أسابيع في منطاد” التي صدرت في فرنسا عام 1863 أول ما كتب في أدب الخيال العلمي وكانت للكاتب الفرنسي جول فيرن، الذي اعتُبر بتلك القصة مؤسسا لهذا الشكل من الأدب. ثم نشر بعدها العديد من الروايات فكانت “رحلة إلى جوف الأرض”. ثم “من الأرض إلى القمر” التي تنبأ فيها بوصول الإنسان إلى القمر وهو الأمر الذي حدث في النصف الثاني من القرن العشرين.
عربيا، كان لأدب الخيال العلمي حضور واضح، يرجعه البعض إلى مسافات زمنية بعيدة، بدأت منذ وجود أسطورة “حي بن يقظان” وكذلك “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، التي تتحدث عن رحلة متخيلة إلى عوالم افتراضية. ثم “ألف ليلة وليلة” التي وجد فيها البساط والحصان الطائر والمصباح السحري وجزر العمالقة، أما في العصر الحديث فكانت البداية مع رواية مصطفى محمود “العنكبوت” ثم تتالت الكتابات في هذا الشكل.
طالب عمران، عالم وروائي درس العلوم بدمشق ثم الفلك في الهند، تعلم القراءة والكتابة قبل أن يذهب إلى المدرسة بسنوات، وذلك بفضل عمه الذي علمه إياهما من خلال القرآن الكريم. دخل المدرسة للصف الثالث فورا لما كان يختزنه من علم ومعرفة. وبعد أن تخصص في العلوم وامتلك ناصيتها، بات يكتب في الخيال العلمي الذي فتن به.
كان عمران صاحب أطول برنامج إذاعي يبث في دمشق حمل اسم “ظواهر مدهشة”، حيث قدم آلاف الحلقات. كذلك كتب مئات الدراسات والروايات والمؤلفات الدرامية التي تتعلق كلها بالخيال العلمي. وهو يشرف الآن على أربع مطبوعات علمية تصدر في سوريا.
أدب المستقبل
العرب: كثيرا ما تشتبك في بال المتلقي كلمتا الخيال والعلمي كونهما بالمعنى المبدئي متناقضتين، وهو معنى يشابه مبدأ الموسيقى الصامتة أو الحرب الباردة. كيف ترى إمكانية الكتابة في هذا المجال؟ وأين تقف حدود الخيال لتبدأ حالة العلم؟
طالب عمران: لا تتناقض الأحاسيس مع التكنولوجيا إذا وظّفت في خيال يخدم الفكر الإنساني. لا شك أن العقل الذي يمد الإنسان بتلك الطاقة الإبداعية والقدرة على التحليق في أجواء فذة أحياناً من الخيال، هو الذي يزيد من سموه ويعلي منزلته بين الكائنات الحية.
بالتخيل يستطيع الإنسان أن ينتقل في الكون ويسبح بين الأثير، ويحلق في عوالم غير مرئية. التخيل عند الإنسان هو عالمه السحري الخاص، يطوف به أرجاء الكون حتى ليكاد يسمعه صوت تصادم الذرات بإلكتروناتها ونوياتها وليكاد يجعله يحس ببرودة أعتى الكواكب وأكثرها بعداً عن النجم الذي تدور حوله، أو بسخونة أقرب الكواكب إلى النجم.
قوة العقل الفريدة وقدرته على التخيل، هما اللتان تخلقان العباقرة والعظام، كل كلمة مكتوبة لها معناها وسحرها ووقعها الخاص. نحس بها أحياناً حيوية عظيمة معبرة، وأحياناً أخرى سطحية تافهة.
خيال المخرج السينمائي أو المسرحي أو الإذاعي هو الذي يحدد روعة الفيلم أو المسرحية أو الدراما الإذاعية. ضمن خياله الإبداعي ينقل للمتفرج أو المستمع، الأحداث كما استطاع ذهنه أن يتخيلها وضمن دفق من الصور المعبرة، أو المؤثرات الصوتية المثيرة التي تحدد مدى قوته وسعة خياله ونجاحه في التأثير في المتفرج أو المستمع.
خيال الطفل هو الذي يصور له أن البناء الذي يصنعه من الطين والرمال هو بناء حقيقي يحيا في داخل عوالمه الخاصة، وتتخيل الطفلة أن دميتها ليست سوى طفلة جميلة تسمع مناغاتها وتطيعها في تلبية طلباتها. خيال الحبيب شوق ولهفة وسعادة وتعزية عن لقيا الحبيبة، ينقله إلى عالم كله هناءة وحب. وعمر الإنسان القصير لا يقاس بعمر الكون، اللحظة الفاصلة بين تكون الجنين ونموه وتحوله من طفل إلى شاب فكهل فشيخ ثم دفنه بعد أن يتقدم به العمر، ليست سوى لحظة ضئيلة تافهة.
العرب: كيف تنظر إلى الخيال المرتبط بالعلم؟
طالب عمران: الخيال العلمي هو الانتقال عبر آفاق الزمن على أجنحة الحلم المطعم بالمكتسبات العلمية وغالباً ما يطرق كتابه أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمن محدد، فهو نظرة واسعة إلى العالم يدخل فيها العلم فيخرج بحقائقه مع خيال الكاتب ليرسم أحداثاً تنقلك إلى المستقبل أو الماضي السحيق فتثيرك وتذهلك. والرابطة بين العلم والخيال رابطة مؤطرة متماسكة، ومن يكتب في هذا النوع من الأدب لن ينجح دون ثقافة علمية ممتازة، يستخدمها في نسج أحداث قصصه ورواياته.
وعلى كل حال مفهوم أدب الخيال العلمي اختلفت الآراء حوله؛ البعض وصف القصة العلمية بأنها تترجم المكتشفات والاختراعات والتطورات التقنية التي ظهرت، أو التي يمكن أن تظهر في المستقبل، إلى مشاكل إنسانية ومغامرات درامية. وبعضهم وصف الخيال العلمي بأنه اصطلاح يطلق على ذلك النوع من الأدب الروائي الذي يعالج بكيفية خيالية مدروسة استجابة الإنسان لكافة ما يحيطه من تقدم علمي وتطور، سواءً في المستقبل القريب أو البعيد.
وبعضهم الآخر وصف القصة العلمية بأنها ليست مجرد مغامرات مثيرة تعالج الفضاء وعوالمه القصصية، أو الوحوش جاحظة العيون أو الأكوان السحرية أو رؤى المستقبل ومفاجآته، فبالإضافة إلى ذلك كله تتمتع القصة العلمية بميزة تتعلق بالأفكار والتساؤلات حول ما يحيط بنا من ألغاز لنعرف شيئاً عن تفسيرها.
يؤكد أندريه موروا أن الرواية العلمية ليست فقط التي تعدد الإنجازات العلمية والاختراعات دائماً بل تتعرض أيضاً لموقف الإنسان من الآلة بحكم أنها نتاج مباشر للعلم الحديث. أدب الخيال العلمي هو أدب المستقبل، يحلم باللحظة التي ينتصر فيها الإنسان على عوامل ضعفه في الكون المحيط به، يحلم بالانتصار على الشيخوخة والمرض والتعب ويكتشف الأعماق المجهولة في المحيطات ويلتقي مع كائنات العوالم الأخرى، ويهبط على الكواكب البعيدة، ويحذر الإنسان من الانجراف نحو عدم الاكتراث بسلبيات استخدام العلم لمنفعته الذاتية وما تخلقه تلك السلبيات من دمار لحضارته الحديثة، كالتلوث بكافة أشكاله والنفايات والاحتراق الصناعي وطبقة الأوزون المخربة وتكديس السلاح المدمر.
إنه يحاول أن يفسر حياة الإنسان والألغاز المحيطة به، ويقدم حلولاً لمشاكله المستعصية، وهذا أدب الخيال العلمي الجاد، وهذا ما أحاول التعبير عنه في كتاباتي. أما نوع الأدب الآخر، الذي يؤكد على الخرافة دون مضمون علمي حقيقي فينتشر في المجتمعات الاستهلاكية كأدب يسلي قارئه في حافلة، في سيارة، في طائرة، ثم يلقي كتابه وينسى كل أحداثه غير المنطقية.
إذن هناك خيال علمي جاد منضبط يستند إلى فرضيات علمية مدروسة يمكن أن تتحقق ويحكي عن مصاعب الإنسان وإمكانية خلاصه من مشاكله… وهناك خيال علمي فانتازي فيه الكثير من الشطط لا يستند إلى فرضيات مدروسة، وإنما كتب للإثارة والتسلية.
إنكار النقاد
العرب: لماذا لا توجود إسهامات كثيرة من الأدباء العرب في أدب الخيال العلمي؟
طالب عمران: ظهر الخيال العلمي في الوطن العربي بشكل هامشي لأول مرة عام 1958 في مسرحية توفيق الحكيم “رحلة إلى الغد” التي تحكي عن محكومين بالإعدام يسافران إلى الفضاء بدلاً من تنفيذ الحكم، وحين يعودان بعد مدّة قصيرة يجدان أن الأرض قد مضى عليها 300 عام. وفي عام 1964 كتب الدكتور مصطفى محمود رواية “العنكبوت” التي تحكي عن باحث يتوصل إلى إكسير يجعله ينتقل بين الأجيال، وهو انتقال أشبه برحلة تقمص طويلة. وفي عام 1967 نشر رواية “رجل تحت الصفر” وهي تتحدث عن مستقبل الإنسان، وطموحاته في تحوله إلى موجات مفتتة تنتقل بسرعات خارقة بين النجوم والمجرات.
أما الكاتب الذي التزم هذا الخط وحافظ عليه وتفوق فيه فهو نهاد شريف، الذي ولد عام 1930. نشر روايته “قاهر الزمن” عام 1972 ثم تابعها بنشر مجموعات قصصية أخرى وروايات من بينها “رقم 4 يأمركم” و”سكان العالم الثاني” و”أنا وكائنات الفضاء” و”أحزان السيد مكرر” (مسرحية)، وغيرها من الأعمال.
ويمكننا أن نتذكر محمد الحديدي ورؤوف وصفي وحسين قدري وصبري موسى وصلاح معاطي وعمر كامل وعلي حسن وإيهاب الأزهري من مصر ومحمد عزيز الجبابي وعبدالسلام البقالي وأحمد فزان (والثلاثة من المغرب) وطيبة إبراهيم من الكويت وقاسم قاسم من لبنان، وهناك أدباء نشروا قصصاً قصيرة لمرة واحدة. وفي سوريا لينا كيلاني التي نشرت قصصا كثيرة للأطفال وقصصا وروايات عديدة أيضا من الخيال العلمي.
العرب: كيف يحضر أدب الخيال العلمي في فضاء الثقافة العربية وما مدى الاعتراف به؟
طالب عمران: بالتأكيد اعترف بنا القراء وتابعونا، ولكننا في الفضاء الثقافي العربي مازلنا شبه مغيبين، والسبب نقاد السلطة، وأسياد الثقافة الاستهلاكية، الذين عدّ بعضهم أدب الخيال العلمي نوعاً من الهرطقة والتدليس. نحن نحاول أن نثبت أقدامنا في الدائرة الثقافية العربية رغم كل أنواع الحصار والتغييب، وفي السنوات الأخيرة بدأنا نشعر بأننا نخرج إلى السطح، والدليل أقدمه شخصياً، هو كثرة طبعات كتب الخيال العلمي التي أنشرها. هذا دليل صحة على مستوى القراء، وإن كان ينقصنا اعتراف النقاد بنا.
وهناك مشكلة الثقافات الإقليمية التي تغيّب بعض العرب عن ساحة الخيال العلمي، فلقد قرأت مؤخراً كتاباً حول الخيال العلمي العربي لم يذكر فيه كاتبه سوى أسماء مصرية مع اسمين أو ثلاثة من أماكن أخرى. هذا أيضاً يشكل نوعاً من عدم الصدق مع النفس حين طرح عنوان معيّن كعنوان الخيال العلمي العربي. أدب الخيال العلمي موجود ومعترف به وهو في تطور دائم.
تجربة الكتابة
العرب: كيف ترى وظيفة الكتابة للخيال العلمي؟
طالب عمران: مسؤوليتي في الدفاع عن الإنسان موقف مبدئي، فبعد إنجاز ما يقارب المئة أثر إبداعي ما أزال أبحث عن المزيد من الأفكار لأقدمها للإنسان المظلوم، فهنالك أشياء لم أقلها بعد. أنا إنسان نشأت مع القراءة والخيال والحلم بالفطرة، كنت أكره الأنانية والغدر وامتهان كرامة الإنسان واستغلاله، وأدافع عن الإنسان دون تمييز. منذ طفولتي أعشق القراءة عشقا كبيرا، كان من الطبيعي أن أكتشف أدب المغامرة الذي قادني إلى أدب الخيال العلمي الذي جعلني أتعلق بإرهاصاته المرتبطة باستشراف المستقبل، وهذا ما جعلني بعد أن اختزنت الكثير من المعارف أدخل إليه من بابه الواسع.
نهلت من الكتب بشكل جعل الكتاب رفيقي الدائم. وهذا ما أسّس لمخزوني المعرفي. أنا أجرّب في الكتابة التي تحاصرني بهموم الناس ومتاعبهم، وأهرب من الرقيب لتقديم عوالم أخرى شبيهة بنا لأقدّمها دون رتوش. عندي نبع فيّاض من الأفكار وأعتبر نفسي مسؤولا عن الدفاع عن الإنسان ضد من يسبب له المتاعب والهموم. وربّما كان الخيال العلمي منفذا لكلّ هذه الأفكار والإرهاصات.
أشعر أنّ الكتابة في أدب الخيال العلمي رغم صعوبتها هي جزء من عالمي الرحب الواسع الذي أحلّق فيه في كل زوايا هذا الكوكب وعبر أرجاء الكون. هو جزء من ترنيمات أحلامي التي لا يحدّها حدّ، أحيانا هي تحكي عن إنساننا المضيّع وخوفي على مستقبله. أنا امتهنت هذا النوع من الأدب ولست نادماً. أشعر أنني من خلاله أكثر معرفة ودراية وأكثر قدرة على الفعل الإبداعي.
بدأت كاتباً مسرحياً، وعرضت لي على مسارح دمشق ثلاث مسرحيات هي “طوفان الدم” و”أناس بلا ملامح” و”رجال في الفوضى”، وكتبت القصة العادية والدراسة النقدية قبل أن أدخل إلى مجال الخيال العلمي، ولقد فتنت بهذا النوع من الأدب وكنت مشبعا بقراءات كتب الفلك، وروايات وقصص المغامرات والقصص البوليسية والخيال العلمي. فاجتمع عندي المخزون المعرفي العلمي مع الإبداع ليكون أدب الخيال العلمي الذي فتنني.
كتبت قصصاً قصيرة عديدة في البداية لم تكن من الخيال العلمي، أما الروايات فأول رواية كتبتها كانت من الخيال العلمي وهي بعنوان “العابرون خلف الشمس” تتحدث عن رحلة إلى الفضاء وبالتحديد إلى كوكب الزهرة، تضيع المركبة ثم تخترق الزمن لتحطّ فوق كوكب شبيه بالأرض، ولكنه كوكب تطوّر كثيراً مرّ سكانه بنفس المراحل التي مرّ بها البشر، ولكنهم تعاونوا معاً لبث روح المحبة بينهم واختفت الكراهية والحقد والحسد، وأصبح مجتمعهم مثاليّاً، يقدم فيه الفرد جهده في سبيل التطوّر والتقدم والكشف، إلى درجة أن المرض اختفى بينهم وأصبحوا يعيشون طويلاً وهم يكتشفون الكواكب والمجرات البعيدة. أنا ملتزم بكتابة هذا النوع من الأدب، حتى أنه يطغى على كل اهتماماتي الأخرى بالمسرح والرواية والقصة والدراسة.
العرب: حفل التاريخ الإبداعي بالعديد من الأمثلة على الكثير من الأدباء الذين جاءوا من خلفيات علمية، مثل تشيخوف عالميا وعبدالسلام العجيلي عربيا. كيف امتلكت ناصية الأدب وأنت المختص بعلوم الفلك والفضاء؟