التجربة والرؤيا أساس كل فعل إبداعي

الناقد المغربي عبداللطيف سندباد يفكك لغز الإبداع من خلال نصوص الشاعر المغربي عبدالكريم الطبال.
الثلاثاء 2020/11/03
عبدالكريم الطبال شاعر طوّع الصوفية والرومانسية

أنشأ سابقا الناقد التونسي محمد لطفي اليوسفي مفهوم “لحظة المكاشفة الشعرية”، وفعلا ترسخت في جل المباحث النقدية رغبة في الإمساك بهذه اللحظة العصية، لحظة ولادة الشعر، سواء من خلال القصيدة أو من خلال ما قبلها وما بعدها. في هذا الصدد تأتي المقاربة الجريئة الجديدة للناقد المغربي عبداللطيف سندباد لشعر عبدالكريم الطبال.

يحاول الأديب والناقد المغربي عبداللطيف سندباد في كتابه الجديد “التجربة والرؤيا عبدالكريم الطبال نموذجا” التصدي لمفهومين مركزيين في الدراسات التحليلية للشعر هما “التجربة الشعرية” و”الرؤيا الشعرية”.

وقسّم سندباد كتابه إلى أربعة فصول، استقصى من خلالها تفاصيل ما انتهى إليه النقد الأدبي بخصوص هذين المفهومين (التجربة والرؤيا) قبل أن يمارس التطبيق على نصوص الشاعر المغربي عبدالكريم الطبال.

خطوات الشعر

حسب ما جاء في تقديم الكتاب بقلم الدكتور عبدالجليل هنوش، أستاذ البلاغة والنقد الأدبي بجامعة القاضي عياض، فإن بعض النقاد يقفون حائرين أمام نصوص كبار الشعراء، فتراهم يعودون من رحلتهم معها بغير طائل، وكأن النصوص نافرة تأبى أن تلين لهم أو ترفض أن تكشف لهم أسرارها؛ وقريب من هذا يقرر هنوش ما انتهى إليه سندباد حين ميّز في نهاية بحثه بين ما سماه التجربة الإبداعية والتجربة الإنتاجية، بين تجربة الرؤيا وتجربة الرؤية.

الصورة الشعرية تنمو لغويا وإيقاعيا من خلال السياق في شكل رموز تتكامل مع ما سبق ومع ما سيأتي
الصورة الشعرية تنمو لغويا وإيقاعيا من خلال السياق في شكل رموز تتكامل مع ما سبق ومع ما سيأتي

والشاعر عبدالكريم الطبال هو ابن مدينة سفشاون، الشاعر الذي وصفه النقاد بالأقل كاريزمية بين شعراء العربية في العصر الحديث، والأكثر جاهزية لمحاورة ألبرتو ماتشادو، بيسوا ولوركا، بندية بالغة.

ونسج الطبال، منذ دواوينه الأولى “الطريق إلى الإنسان” 1971، “الأشياء المنكسرة” 1974، “عابر سبيل” 1974، رؤيا خاصة اتضحت معالمها في ديوانه “البستان” 1988 و”آخر المساء” 1994 و”شجرة البياض” 1995، رؤيا غالبا ما تختزلها الصحافة برطانة في كليشيهين هما: الرومانسية والصوفية، لكن شعر الطبال هو أبعد من أن نصفه بالشعر الرومانسي أو الشعر الصوفي، بل المنجز الشعري للطبال ينحى إلى تأسيس مجال رؤيوي خفي ينبثق من كل قصائده السابقة.

وحسب الكاتب والمحلل عبداللطيف سندباد، فإن الكشف الجيد عن الصور الشعرية في القصيد يمر عبر نفقين أساسيين: نفق المكونات الفنية التي تتألف منها الرؤيا الشعرية بوصفها تجسيدا لغويا وإيقاعيا، ونفق التصور الإيحائي الذي تسبح فيه القصيدة قبل مرحلة التجسيد: أي نفق التجربة الشعرية.

ولفت هنا إلى أن هذا الرصد التحليلي، كما يبيّن الناقد، لم يكن شاملا للتجربة والرؤيا في كل شعر عبدالكريم الطبال أو غيره، بل اتخذ الشاعر نموذجا متمركزا في اشتغاله على ممكنات “ضبط أساس نظري، وتصور منهجي يتعلق أولا بمراعاة ماهية الفن وخطوات عملية الإبداع الشعري، وثانيا بمراعاة النص الإبداعي المراد تحليله”.

كيف تنمو الصورة

عبدالكريم الطبال الأقل كاريزمية بين شعراء العربية والأكثر جاهزية لمحاورة ماتشادو وبيسوا ولوركا بندية بالغة
عبدالكريم الطبال الأقل كاريزمية بين شعراء العربية والأكثر جاهزية لمحاورة ماتشادو وبيسوا ولوركا بندية بالغة

في سياق البحث حاول سندباد رصد عدد من الخرائط الذهنية والمنهجية، وتجميع بعض الوسائل التقنية، وضبط الأدوات الإجرائية، واستخلاص قواعد عامة، فيما خلصت إليه أجوبة المختصين في قضايا الأدب والمنهج بصدد التجربة والرؤيا.

وأجرى الناقد تطبيقا لذلك على قصيدة “مرآة” للشاعر عبدالكريم الطبال. وعلى الرغم من أن هذه المناهج مختلفة ومتنوعة الرؤى في الجواب الأدبي عن المفهومين (التجربة والرؤيا)، فإن البحث مصمم كي يجر القارئ إلى وعي استقصائي لمفهومين جوهريين في عمق عملية الإبداع الفني، وقابليتهما لكل إجراء تطبيقي خاصة في الشعر.

واشتغل الفصل الأول من الكتاب في ضروب التصورات المنهجية لتحليل النصوص الشعرية، فيما أبان الفصل الثاني عن الدلالات المركزية للتجربة الشعرية، وما ارتبط بها من سكن المعاناة، ومسالك فكرية وجمالية، وما به تتقوم التجربة الشعرية من حدود الفصل والوصل بالذاكرة والواقع والعالم الخارجي.

أما الفصل الثالث من الكتاب فقد غاص من خلاله الناقد في أعماق “الرؤيا الشعرية” بوصفها من جهة تجسيدا لغويا رفيعا يمايز بين الصور الشعرية الوصفية والإدراكية، وأيضا تجسيدا إيقاعيا متقدا تتناغم في متونه إيقاعات الكلمة والوزن وموسيقى القافية.

ويرى باحثون أن التجربة والرؤيا عند عبدالكريم الطبال تشكلان نموذجا سيكون إضافة نوعية لما تناولته أقلام النقاد في تجربة الطبال الشعرية، لحمولتها اللغوية وكذلك مضامينها التي يتطلب تفكيك رؤاها النفسية ذات الإشراقات الوجودية.

وشكل هذا التصور النظري العام للظاهرة الشعرية تجربة ورؤيا ـ في الفصل الرابع ـ المحرك المنهجي في تتبع الصورة الشعرية لدى عبدالكريم الطبال من خلال قصيدة “مرآة”، وكيف تنمو هذه الصورة الشعرية لغويا وإيقاعيا من خلال السياق في شكل رموز تتكامل مع ما سبق، وتتماسك مع ما سيأتي، وتتلاقى في رنين واحد؛ إنه رنين الرؤيا ككل ديناميكي ينبثق عن تجربة يقظة الإحساس واتقاد الشعور، وتكثف التعبير وإثارة الانفعال، محملا بعوالم من الجهد والمعاناة.

ويقول عبدالجليل هنوش إن الكاتب ميّز في نهاية بحثه بين ما سماه التجربة الإبداعية والتجربة الإنتاجية، بين تجربة الرؤيا وتجربة الرؤية، حيث قرر في الفقرة الأخيرة من بحثه أن عدم مراعاة كل من هذين البعدين في التحليل والنقد سيجعل أي مواجهة للنص الإبداعي من قبيل الشروحات والتعليلات والتعليقات والإسقاطات المتعسفة، أي أن النص سيصير هو المتحكم في الناقد فيظهره عاجزا متصاغرا متضائلا أمام جبروته المخيف والمخوف في آن معا.

ونذكر أن كتاب “التجربة والرؤيا عبدالكريم الطبال نموذجا”، صدر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال بمراكش في 112 صفحة من القطع المتوسط، وصمم الغلاف الفنان المسرحي السينوغرافي مولاي عبدالعزيز العلوي مهير.

14