الغرام بالتقاط الصورة في المشهد الليبي

قل ما شئت عن الأزمة الليبية من تعقيدات داخلية وتشابكات ومؤامرات خارجية، وقل ما شئت عن التقاعس والتواطؤ، والجدية والإخلاص، ولا تنسى غرام الكثير من الشخصيات والقوى المعنية بالأزمة بالسعي نحو الصور الجذابة، أو “اللقطة” بلغة أهل الفن، و”الشو” عند غيرهم من المغرمين بالاستعراض ولفت الأنظار.
قد تكون هذه القضية جانبية لدى البعض، ويراها آخرون أصبحت ظاهرة في الحياة السياسية والاجتماعية عامة، غير أن تكرارها بكثافة في ليبيا، جعل منها عنصرا مهما في سير الأحداث، يفسر الآلية التي تدار بها الأزمة، ومدى قدرة اللقطة والشو والاستعراض على إنقاذ من يلجأون للتركيز على شكل الصورة قبل مضمونها، وتحويلها إلى ورقة مؤثرة.
لتقريب المشهد أكثر يمكن تسليط الضوء على مجموعة من التطورات، استحوذت فيها اللقطة على الأهداف السياسية، فرئيس حكومة الوفاق فايز السراج أعلن في منتصف سبتمبر الماضي استعداده للتخلي عن منصبه قبل نهاية أكتوبر، وهو يعلم أن الأزمة حافلة بالتعقيدات التي لن تمكن المنخرطين فيها من تشكيل حكومة جديدة.
وقتها بدا الرجل غير متشبث بالسلطة أو مكترث بها، وبعيدا عن الدوافع والضغوط التي أدت إلى هذا الموقف، فقد حصل السراج على ما أراده من اللقطة المفاجئة، وانتقل من مذنب جلب تركيا وآلتها العسكرية إلى بلاده ومنحها امتيازات كبيرة، إلى شخص وطني حريص على مصلحة ليبيا.
نال “الشو” ذاته عندما أعلن، الجمعة 30 أكتوبر، استمراره في منصبه، نزولا عند “رغبة الجماهير الغفيرة” ولمصلحة بلاده، وامتثالا للضغوط الدولية التي طالبته بالتضحية من أجل ليبيا والبقاء في مقعده، متصورا أن هذه اللقطة وسابقتها كافيتان لتحسين صورته، وتعويمه سياسيا مرة أخرى.
تحتفي البعثة الأممية في ليبيا بعقد أول اجتماع للجنة العسكرية (5 + 5) في غدامس، كأول لقاء يعقد في الداخل خلال الفترة من 2 إلى 4 نوفمبر الجاري، وهي خطوة مهمة، لكن محتواها الحقيقي ضئيل في مسار الأزمة، ما لم يتم اتخاذ خطوات جادة لتنفيذ ما تتفق عليه اللجنة، وتستكمل به ما بدأته في لقاءاتها السابقة، فالحرص على اللقطة لن يصنع سلاما، ولن يقود إلى خروج تركيا من ليبيا.
ظلت اللقطات الدولية تتوالى في المشهد الليبي، من إصرار على عقد منتدى الحوار السياسي في تونس من دون إعداد جيد وتنقية لأسماء الحاضرين من تجييره نحو أهداف معينة تخدم المتطرفين، إلى الزيارات المكوكية التي تقوم بها رئيسة البعثة الأممية بالإنابة للترويج على أنها قادرة على قيادة البعثة، وتستحق تعيينها رسميا.
مرت الأزمة الليبية بمشاهد أكدت أن قوى مختلفة في المجتمع الدولي باتت مغرمة بفكرة اللقطة، وعلى استعداد للوصول بها إلى أقصى مدى، ولا تعبأ بعواقبها، فالمهم أن يرى العالم أن هناك ضجيجا، أو ملتقى، أو منتدى، أو اجتماعا، أو مبادرة تتحرك حول ليبيا، وليس هناك حاجة لتفرز تقدما ملموسا في حل الأزمة.
ظلت غالبية الدول التي رعت لقاءات بشأن الأزمة الليبية أثيرة لهذه الفكرة وتوابعها، ولذلك أخفقت جميعها في التوصل إلى تسوية سياسية، وانحصر المكسب في اللقطة، التي أوحت أن فرنسا وإيطاليا وألمانيا تبذل جهودا مضنية في سبيل الحل.
العروض التي تقدم على المسرح الليبي لن تفلح في حل أزمة مستمرة منذ عشر سنوات، ربما تحقق لأصحابها بعض الفوائد لكن لن تتمكن من إقناع الناس بأن هناك جدية لوقف المعاناة
وأمل هؤلاء أن تبدد الصور التي جمعت المتخاصمين في ليبيا وقادة ومسؤولين في دول مختلفة، الاتهامات الموجهة إليهم بالاستثمار في الأزمة وإطالة أمدها، ورفع الحرج عنهم بشأن عدم القيام بالدور اللازم والكامل لوقف الاقتتال، وغلق أنبوب العبث بمقدرات الشعب الليبي.
في تقديري، تتعثر التحركات التي تنطلق من رحم اللقطات المتباينة، ولن تتمكن من تغيير الصورة النمطية عن هؤلاء، فلا فايز السراج سيصبح بطلا قوميا يخرج الناس في مظاهرات للمطالبة به كرئيس للحكومة الجديدة المرحلة المقبلة، ولا البعثة الأممية سوف تتحول إلى مصدر وحيد للعناية السياسية، ولا القوى الكبرى قادرة على أن تغسل أياديها من الدماء التي انتشرت في ليبيا.
لن تفلح العروض التي تقدم على المسرح الليبي في حل أزمة مستعصية مستمرة منذ حوالي عشر سنوات، ربما تحقق لأصحابها ومن أجادوا تمثيلها بعض الفوائد، لكن لن تتمكن من إقناع الناس بأن هناك جدية عامة لوقف المعاناة المستمرة ورفعها عن كاهلهم، ولن تغفر جريمة من زجوا بليبيا في هذا المستنقع.
بدأت تتحرك السفن في مياه ليبيا من خلال حوارات عدة، في محطات مختلفة، وكي تحقق نتيجة ملموسة من الضروري بلورة رؤية واضحة بعيدة عن البازار السياسي، وتجنب تكرار التوصل إلى اتفاق مشوه يعيد إنتاج الأزمة ويضعها في ثوب جديد.
يتطلب الحل العزوف عن مسألة اللقطات الممجوجة، حيث أرهقت ليبيا، ودفع المواطنون ثمنا باهظا لها، ومنحت الميليشيات والمرتزقة مزايا نوعية كبيرة، وأتاحت الفرصة لدولة مثل تركيا لتوسيع نفوذها على الأرض، وخلقت شبكة مصالح جعلت عملية اقتلاعها صعبة، وتحتاج إلى جهود كبيرة.
وصل توظيف اللقطات حدا مخيفا، فقد حدثت إدانات للدول التي ترسل المرتزقة، لكن لم يتم التعامل بحسم مع تركيا زعيمة المرتزقة الجدد، فالعالم كله يعلم أنها المورد الأول لهم في ليبيا وغيرها.
جرى استعراض قوة من جانب بعض الدول الأوروبية في البحر المتوسط لوقف عمليات تهريب السلاح وتطبيق قرار مجلس الأمن بحظره، ولم يتم توقيف سفينة واحدة محملة بالمعدات العسكرية متجهة من تركيا إلى ليبيا لتثبيت الإدانة.
فهمت أنقرة أن الرسائل التي تأتي إليها بمثل هذه الطريقة ضعيفة وغير مجدية، لأن تصوراتها حيال ليبيا وفي المنطقة عموما تقوم على “الشو” وتركيب اللقطات لتخلق في النهاية صورة ذهنية قوية تغنيها عن اللجوء إلى الدخول في صدامات مباشرة.
تجيد الكتائب المسلحة في طرابلس فن الاستعراض من باب إظهار القوة العسكرية، وتوصيل إشارات بأن وجودها مستمر، وكثفت من ذلك الفترة الماضية بعد أن ظهرت تحركات تميل نحو الحل، ولجأت إلى تصفية حسابات مع ميليشيات مناوئة لتعزيز نفوذها، وضمان عدم غروب الشمس عنها، حال التوصل إلى تفاهمات في المستقبل.
دخلت فكرة اللقطة الساحة الليبية من أوسع أبوابها، للدرجة التي أضحت فيها الأمور غائمة، بما ضاعف من صعوبة التفرقة بين الحقيقي والمزيف، وتحديد الفواصل بين السمين والغث، بشكل ينهك الراغبين والمهمومين بحل الأزمة، التي وضعت فوق موقد مشتعل، لا أحد يستطيع تقدير موعد الإطفاء.