سامية الزرو رسامة معاصرة بهوية فلسطينية

الفنانة التشكيلية الفلسطينية تنظر إلى فنها من جهة كونه فنا إنسانيا يدافع عن قضية شعب يطالب بحقه في أن يعود إلى أرضه التي تم اغتصابها.
الأحد 2020/11/01
سامية الزرو جمهورها هم الناس العاديون

 "الرسم وحده لا يكفي" هذا ما يقوله فنانون من عصرنا. اختلفت أساليبهم وتقنياتهم غير أن منهجهم ظل وفيا لتلك الفكرة التي لم تعد بعد الأميركي روبرت راوشنبرغ غامضة. ولكن لماذا؟ لأن هناك الكثير من الفوضى والعبث في العالم.

ذلك ما آمنت به سامية الزرو وطبّقته منذ عام 1990 بعد أن أخذت تمد يدها إلى مختلف المواد لتستعملها في إنجاز أعمالها. أصباغ ومعادن وخشب وأنواع مختلفة من الأقمشة لتؤالف ما بينها. تلك ألفة من نوع مختلف فهي قائمة على الضجيج. مَن ينظر إلى أعمالها أول مرة لا بد أن يصدمه ذلك الصخب الصادر عن ارتطام المواد بعضها بالبعض الآخر وكأن الفنانة يسلّيها ما يحدث.

في حقيقة الأمر فإنها تجد في ذلك الصخب معادلا موضوعيا لأفكارها التي تسعى إلى التعبير عنها من خلال الصورة. وبسبب ذلك الصراخ الذي يُمكن أن يُحسّ فإن الزرو غالبا ما تلجأ إلى الأحجام الكبيرة لتفريغ شحناتها التعبيرية.

إنسانية من غير سياسة

الزرو تصنع جداريات. أولا لأن موادها لا يمكن أن تتسع لضجيج تصادمها لوحة صغيرة، وثانيا لأن قضيتها هي أكثر سعة على مستوى التداول الشعبي من مساحة لوحة صغيرة لا تُعرض إلا على عدد محدود من متذوقي الفن.

العمل الفني بالنسبة إلى الزرو هو مناسبة للتفاعل مع أكبر عدد ممكن من الجمهور. وهنا لا بد أن نركّز على مصطلح الجمهور الذي لا يُراد من خلاله الإشارة إلى النخبة التي تتذوق الفن.

الزرو تجد في الصخب معادلا موضوعيا لأفكارها التي تسعى إلى التعبير عنها من خلال الصورة. وبسبب ذلك الصراخ الذي يُمكن أن يُحس فإنها غالبا ما تلجأ إلى الأحجام الكبيرة لتفريغ شحناتها التعبيرية

لم يكن للفنانة جمهورها المحدود بل كانت تحرص دائما على أن تعرض أعمالها في مكان يرتاده أكبر عدد ممكن من الناس ولو كانوا عابرين. جمهورها هم أولئك العابرون. رسامة ونحاتة ومصممة وبنائية ومتفاعلة مع الفنون اليدوية في فلسطين. هذا كله هو الزرو التي يمكن اعتبارها رائدة في فن الشارع.

ولدت في نابلس بفلسطين عام 1938. انتقلت إلى رام الله مع عائلتها عام 1948. حصلت على منحة لدراسة الفن في الجامعة الأميركية ببيروت وتخرجت عام 1957 وكانت قبل ذلك تميل إلى دراسة الطب. مطلع الستينات ذهبت إلى واشنطن لإكمال دراستها الفنية في جامعة كوركورن. ثم عملت في مجال التدريس الجامعي في الأردن. أما معارضها فكثيرة. ولقد احتفي بها غير مرة من قبل المؤسسات الفنية الفلسطينية والعربية.

الغريب أن الزرو لا تعتبر نفسها فنانة سياسية. فهي تعتقد أن السياسة غالبا ما تخون القيم والمبادئ الإنسانية. لذلك تنظر إلى فنها من جهة كونه فنا إنسانيا يدافع عن قضية شعب يطالب بحقه في أن يعود إلى أرضه التي تم اغتصابها. وهنا تضعنا الفنانة في مواجهة أزمة لطالما حيّرت النقاد حين ألحقوا الفن التشكيلي الفلسطيني بالسياسة ومارسوا في حقه شتى صنوف الإهمال.

تقول الزرو “لست سياسية ولم أنو توظيف فني في خدمة السياسة”. ذلك ما يجب أن نتعامل معه إيجابيا. فهي لا ترسم مثل إسماعيل شموط أو تمام الأكحل. ذلك صحيح. فهي لا ترسم بطريقة رمزية. ولكنها ترسم شعارات الانتفاضة كما لو أنها تعيشها.      

كانت تعيشها من خلال صخب موادها وخاماتها، فهي فنانة تجريبية. ولأنها كانت تميل إلى العلم قبل اتجاهها إلى الفن فإنها لا تجد أنهما يتقاطعان بل يكمّل أحدهما الآخر “أتعامل مع الفن باعتباره علما” تقول. درس الخامات والمواد كان أهم دروسها. وهي في ذلك إنما تستجيب لطريقتها في التفكير الفني القائمة على النظر إلى العمل الفني كونه جزءا من البيئة التي تحيط به. لذلك فهو مركب من أشياء يغلب أحيانا عليها التناقض ليكون وفيا لتلك البيئة، مخلصا لوظيفته في التصدي لأمراضها. وهنا أيضا يبرز الجانب الإنساني، باعتبار أن العمل الفني ينبعث من داخل الحالة الإنسانية ولا يقف بمعزل عنها.

التاريخ على جدران مستعارة

الزرو تركز على الجانب الفكري في العملية الفنية
لوحة فلسطينية بملامح واضحة

تركز الزرو على الجانب الفكري في العملية الفنية. فهي ترى أن الفنان لا يزيد جمالا على جمال الطبيعة. ما يفعله إنما يتعلق بمشاعره وأفكاره “أيّ عمل لا يوجد فيه فكر لا يدوم” تقول. وهي من جهة أخرى تعتقد أن هناك علاقة راسخة بين الفن والتاريخ إذ تقول “الفن يسجل التاريخ منذ أيام الكهوف. ولو لم يكن هناك فنون لما توصلنا إلى أيّ معلومة عن تاريخ الشعوب”. وفي ما يتعلق بتجربتها في ذلك المجال تقول “أرسم لتسجيل التاريخ أولا وخلق تفاعل بيني وبين المشاهد عن فترة زمنية معينة ينبثق عنها حديث وحوار متواصل”.

وعلى أساس تلك النظرة يمكننا أن نفهم اهتمامها الواسع والعميق بالانتفاضة الفلسطينية وظاهرة أطفال الحجارة. فهي اضافة إلى تواصلها الوجداني العميق مع تلك الظاهرة لم تفصل الفكرة عن جمالها وهي التي تؤكد أن الجمال موجود في كل شيء. كانت لديها جملة صادمة “الجمال موجود حتى في كومة زبالة”. لذلك فإنها نجحت في نقل الحدث من مستواه اليومي إلى المستوى الذي يمثل من خلاله رؤية شاملة لإنسانية معذبة تقاتل دفاعا عن حريتها وحقها في البقاء.

في تلك الفترة رسمت كما لو أنها تتشبّه بأطفال الشوارع الذين يرسمون ويكتبون على الجدران ما يعبّر عن احتجاجهم قبل أن يهربوا. كانت جدارياتها أشبه بجدران مستعارة.

المباشرة والهوية الوطنية

لوحة فلسطينية بملامح واضحة
الزرو تركز على الجانب الفكري في العملية الفنية 

“من جنين إلى غزة” كان ذلك عنوان أحد معارضها. وهو ليس استثناء من جهة مباشرته وتأكيده على الهوية. الزرو فنانة فلسطينية وهي ترى أن الفن حين يسجل التاريخ فإنه يبدأ بالأحداث اليومية وفي ظل ذلك فإنها تحرص على أن تخاطب جمهورا واسعا هو الجمهور الذي لا يقع الاهتمام بالفن ضمن اهتماماته. في ذلك تمثل الفنانة نمطا من الفنانين الذين يجدون في المباشرة في التعبير عن التزامهم الإنساني تجسيدا لقوة ارتباطهم بهويتهم الوطنية. ولقد كان لذلك النمط من الفنانين تأثيره في صياغة لوحة فلسطينية بملامح واضحة.

من المؤكد أن هناك مسافة تفصل بين فنان وآخر من فناني ذلك الاتجاه. وهو ما حرصت عليه الزرو حين ارتبط أسلوبها بتقنيتها الشخصية في استعمال المواد والخامات المختلفة ومحاولتها الاستفادة من الفنون اليدوية الفلسطينية وقيامها في أغلب الأحيان بتنفيذ أعمال جدارية كبيرة.

لوحة الزرو يمكن تمييزها من غير الحاجة إلى التعرف على توقيعها. غير أن ذلك لا يمنع من أن تكون الفنانة جزءا من تيار فني فلسطيني وضع أمامه هدفا وطنيا وهو التأكيد على الهوية الفلسطينية التي يسعى العالم إلى طمسها. وذلك هدف نبيل ينسجم مع طريقة الزرو في التفكير الفني.

لقد وضعت الزرو نصب عينيها أن تؤكد من خلال معاصرتها فلسطينيتها. وهو جانب لا يمكن اعتباره ثانويا من تجربتها. فالفنانة مزجت بين طرفي المعادلة التي قامت عليها حياتها وتجربتها الفنية.

صنعت فنا معاصرا وحافظت على خطابها الفني المباشر ولم تجد تناقضا. بل العكس هو ما حدث. فلأنها تؤمن بعلاقة الفن بالتاريخ وجدت أن ارتباطها بوقائع ثورية يومية هو السبيل الأمثل لتأكيد معاصرتها. 

وهنا بالضبط تقع أهمية فن سامية الزرو كونه يمثل موقفا من التاريخ باتجاهين. التاريخ الشخصي الذي أكدت من خلاله الفنانة هويتها والتاريخ العام الذي تسللت من خلاله إلى معاصرتها.

الزرو ترسم شعارات الانتفاضة كما لو أنها تعيشها
الزرو ترسم شعارات الانتفاضة كما لو أنها تعيشها

 

9