استثمار كورونا يكشف تجار الأزمة الصحية في تونس

خبراء: شيوع مناخ الفساد وتسلل التجاوزات إلى كافة مفاصل الدولة بشجع على استفحال الأنشطة الممنوعة ويعمق الاختلالات.
الثلاثاء 2020/10/20
أوجاع الناس تباع بالمزاد

مثل فايروس كورونا فرصة لانتعاش تجارة الأزمة الصحية في تونس، حيث كان مناسبة لأصحاب المخابر الخاصة للتلاعب بأسعار التحاليل لزيادة أرباحهم مستغلين أوجاع المواطنين ومخاوفهم، الأمر الذي يسلط الضوء على فقاعة الفساد التي غذت كل الاختلالات التي يعانيها القطاع الصحي إلى جانب معضلته الأزلية المتمثلة في تهريب الأدوية.

تونس - سلّطت أزمة جائحة كورونا الضوء على أمراض وعلل قديمة متجددة تنخر المنظومة الصحية في تونس، وكشفت عن شبكات المخابر المتلاعبة بأسعار التحاليل، ما أعلن فصلا جديدا من فصول اختلالات وهنات قطاع الصحة العامة جراء الفساد وغياب المحاسبة.

وتزايد تذمر التونسيين من ندرة التحاليل الطبية المخصصة للكشف عن فايروس كورونا وكثرة الأخطاء والتلاعب بنتائج العيّنات.

وتقول سارة (28 سنة) التي أجرت تحليلا في المستشفى العسكري بتونس لـ"لعرب"، إنها "حصلت على نتيجة سلبية في أحد المستشفيات العامة في حين حصلت على نتيجة إيجابية في تحليل بأحد المخابر الخاصة".

وتسيطر حالة من الشكوك داخل الأوساط الاقتصادية والاجتماعية في تونس حول مصداقية بعض التحاليل الطبية التي تقع تحت طائلة بعض المخابر التي تتجاوز القانون.

وشهدت أسعار التحاليل المخبرية ارتفاعا صارخا حيث كانت مجانية مع بداية الأزمة لترتفع في ما بعد إلى نحو 400 دينار وتحت شروط مجحفة.

نوفل عميرة: لا يوجد تعريف واضح لتهريب الأدوية في تونس
نوفل عميرة: لا يوجد تعريف واضح لتهريب الأدوية في تونس

ويقول أحمد (35 سنة) لـ"لعرب" بنبرة تألم شديدة إنه قام بكشف مخبري في أحد المخابر الخاصة وأعلموه بأنه مصاب بالفايروس ليقوم عقب ذلك بجلب كامل أفراد عائلته للقيام بالتحاليل ولكنهم فوجئوا بإعلامهم بأن نتائجهم سلبية ووقع خطأ تقني عند إرسال النتائج عبر البريد الإلكتروني.

ويشكك أحمد في هذه الرواية بقوله "أنا متأكد أن مثلي كثيرون ممن تعرضوا لعملية تحيل.. هؤلاء يريدون استغلال الأزمة لتنمية أرباحهم عبر الاستثمار في مخاوف الناس وأوجاعهم".

وتقول طبيبة مختصة في جراحة القلب بأحد المستشفيات العمومية، رفضت الكشف عن اسمها، في تصريح لـ"لعرب" إن "المستشفى الذي تشتغل فيه أوصى جميع الكوادر الصحية من المصابين بكوفيد - 19 باستئناف عملهم بعد انقضاء مدة 15 يوما دون التحقق من شفائهم نظرا لندرة وافتقاد التحاليل".

واشتكى العديد من المصابين بفايروس كورونا في تونس من نقص في الأدوية والمكملات الغذائية خصوصا الفيتامينات في الصيدليات، حيث حمّلت أوساط شعبية واجتماعية المسؤولية لقصور الدولة في مواجهة مهربي وتجار الأدوية.

وتكشف هذه الأزمة عن اختلالات كبيرة تعانيها المنظومة الصحية في تونس، حيث يشجع مناخ الفساد الذي يحوم حول هذا القطاع على المزيد من التجاوزات التي تهدد حق التونسيين في الرعاية الصحية السليمة.

ورغم تجاوز إشكاليات نقص المواد المطهرة والكمامات الواقية إلا أن الأزمات تمتد إلى منعرجات أكثر خطورة، ما يهدد بشكل صارخ الصحة العامة باعتبارها عنصرا أساسيا للأمن القومي.

وكان نوفل عميرة، نائب رئيس النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة، قال خلال مقابلة خاصة مع "العرب" إن "تونس تجاوزت الضغوط على مسالك التوزيع في ما يخص الكمامات والمواد المطهرة"، وأشار  إلى أن "نحو 55 مزودا حصلوا في الوقت الحالي على مطابقة الشروط الصحية لصناعة الكمامات".

وبخصوص افتقاد بعض الأدوية، أكد عميرة أن "ازدياد الطلب على الفيتامينات والمكونات غير العضوية كالحديد والنحاس تسبب في نقص هذه المواد من السوق".

وحول إشكالية انقطاع الأدوية أوضح نقيب الصيادلة تناقضات وخفايا تحيط بهذا الملف الحارق، قائلا "انقطاع الأدوية لم يكن أبدا بسبب كورونا بل هو نتيجة لأمرين: الأول تعطل شحنات المواد الأولية من السوق الهندية والصينية، حيث أن الهند في حالة حجر صحي. أما الأمر الثاني فيتعلق بإشكالية محلية وهي ارتفاع ديون الصيدلية المركزية وانخرام توازناتها المالية ما دفع العديد من الشركات الأجنبية إلى التهديد بقطع تزويد تونس بالأدوية".

أما في ما يتعلق بالتهريب فقد تساءل عميرة بقوله، إن "الإشكال الحقيقي يكمن في كيف نعرّف التهريب؟"، وأشار إلى أن "تهريب أدوية لتأمين صحة احتياجات الجيران الليبيين، خصوصا مع النقص في أدوية الأمراض السرطانية في ليبيا والجزائر، هل يندرج في سياق التهريب؟".

وتساءل "بصفة معاكسة هل أن جلب الأدوية المنقوصة في تونس من الجزائر وليبيا يعتبر بدوره تهريبا؟"، مشددا على أن "التهريب أمره محسوم ويتمثل في المواد المدعمة والمخدرة ووفق فارق السعر غير أن بقية الأدوية أشكك في كونها تهريبا".

اختلالات كبيرة تعانيها المنظومة الصحية في تونس
اختلالات كبيرة تعانيها المنظومة الصحية في تونس

وينتقد العديد من الخبراء في مجال الصحة الفجوة التشريعية في القوانين التونسية، حيث يغيب تعريف مفصل لمفهوم التهريب. كما توجد العديد من التناقضات بين الواجب الإنساني لمساعدة شعب أو فئة معينة تحتاج إلى العلاج والتجاوز القانوني.

ومثلا رغم تشديد الجارة الجزائر لتشريعاتها لمواجهة تهريب الأدوية، إلا أن القوانين في تونس تظل غير عسيرة في ما يتعلق بردع المخالفين.

وبالنسبة لارتفاع كلفة الأدوية، فقد عزا عميرة ذلك إلى ضعف المقدرة الشرائية وهبوط قيمة العملة المحلية (الدينار)، لافتا إلى أن الأجانب حين يأتون إلى تونس يجدون الأسعار مناسبة جدا مقارنة ببلدانهم.

وفي السنوات الماضية تم كشف العديد من الملفات حول تورّط صيادلة وكوادر طبية في تسهيل عمليات تهريب وبيع أدوية إلى الخارج، ما أدى إلى افتقادها في تونس، وانتعشت هذه التجارة خصوصا في المناطق الحدودية.

وحسب خبراء تتحمل الدولة مسؤولية كل هذه التجاوزات، حيث أن شيوع مناخ الفساد وتسلل التجاوزات إلى كافة مفاصل الدولة شجعا على استفحال الأنشطة الممنوعة والتجارة بأوجاع الناس وحرمان المواطنين من الأدوية.

وتشير تقارير وأبحاث عن الفساد في تونس إلى أن أصل داء كل الخراب الاقتصادي والدمار الاجتماعي هو انعدام الحوكمة وانتشار سياسة التضامن القطاعي التي تمنع المحاسبة خصوصا في القطاعات الحساسة كالصحة والتعليم.

ورغم إعلان الحكومات في العديد من المناسبات عن خطط لمحاربة الفساد لإدراكها أنه يمثل العقبة الأساسية أمام مشروع التنمية، إلا أن كل الخطط تصطدم بصراعات نفوذ وتضارب مصالح يمنعان كل جهود الإطاحة بمتجاوزي القانون في كافة القطاعات، الأمر الذي يجر الدولة إلى منعرج الأزمات الاقتصادية المتواصلة.

11