ضعف الاقتصاد لن يُوقف مغامرة أردوغان في حرب ناغورني قره باغ

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يعول على تدخلاته الخارجية للتغطية على فشله الداخلي.
الجمعة 2020/10/09
مثقل بالتاريخ والأيديولوجيا والجغرافيا

تسود قناعة بين المحللين السياسيين بأن ما يمر به الاقتصاد التركي من مشاكل متنوعة في ظل تباطؤ النمو العالمي، والذي زادت من وطأته جائحة فايروس كورونا لن يوقف طموحات الرئيس رجب طيب أردوغان في إظهار بلده كقوة فاعلة في منطقة القوقاز هذه المرة. فمن خلال التعهد بتقديم دعم لا مشروط لأذربيجان في حربها مع أرمينيا في إقليم ناغورني قره باغ الانفصالي، تقوم أنقرة بتوسيع قواتها وميزانيتها الدفاعية على حساب أولويات أخرى ستجعل الدولة في موقف صعب.

إسطنبول - تعيش تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان على وقع أزمة اقتصادية حادة، وقد وجد البلد العضو في حلف شمال الأطلسي (ناتو) نفسه في موقع ضعيف وصعب من الناحية المالية. ومع ذلك لا يدخر صناع القرار في أنقرة جهدا للوقوف على أبواب حروب جديدة متى ما سنحت الفرصة.

وباعد الدعم الكبير، الذي قدمه أردوغان لأذربيجان في الصراع على إقليم ناغورني قره باغ، بين تركيا والدول الكبرى وأزعج شركاءها في حلف الناتو، غير أن الموقف التركي يمثل أولوية استراتيجية على ما يبدو وضرورة باهظة الثمن تعزز استراتيجيته القائمة على استعراض القوة العسكرية في الخارج للحفاظ على التأييد الشعبي في الداخل.

ومنذ تفجر الأعمال الحربية في ناغورني قره باغ الأسبوع الماضي بين أذربيجان وأرمينيا، اختلف خطاب الأتراك بشكل كبير عن خطاب بقية المجتمع الدولي، فبينما دعت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى روسيا وإيران إلى وقف فوري لإطلاق النار، أعلنت أنقرة عن دعمها المطلق لأذربيجان، وقالت إنه “دون حل مستدام، فإن وقف إطلاق النار لا معنى له”.

من أين التمويل

سينان أولغن: موقف أردوغان من قره باغ منطلقه الهوية مع أذربيجان
سينان أولغن: موقف أردوغان من قره باغ منطلقه الهوية مع أذربيجان

أكثر ما يثير حفيظة المتابعين هو كيف ستتمكن تركيا من تمويل حربها الجديدة بعد أن أدى انكماش الاقتصاد مرتين في عامين لتوقف مسيرة سنوات الازدهار في عهد أردوغان إلى درجة أن مؤسسة موديز للتصنيفات الائتمانية حذرت في الكثير من المرات من أن الحكومة تجازف بحدوث أزمة في ميزان المدفوعات بعد انخفاض قيمة الليرة بنحو 25 في المئة هذا العام.

ومع ذلك، يرى أردوغان أن الفرصة سانحة لتغيير الوضع القائم في ناغورني قرة باغ، الذي تبذل فيه فرنسا والولايات المتحدة وروسيا منذ عشرات السنين جهودا دولية للوساطة، بينما احتفظ سكان من أصول أرمينية بالسيطرة على الإقليم رغم الاعتراف الدولي بأنه جزء من أذربيجان.

ويقول سينان أولغن، رئيس مركز أبحاث إدام بإسطنبول في تقرير نشرته مجلة “فورين بوليسي” الأميركية إن موقف أردوغان يكشف تغييرا أوسع في السياسة الخارجية التركية مدفوعا بفقدان الثقة في الدبلوماسية الدولية ورغبة أكبر في الانخراط بشكل مباشر في النزاعات الإقليمية بهدف اكتساب الأهمية والتأثير، وحثا على الاستفادة من الشعبية المحلية لهذه التحركات.

وأشار أولغن، وهو باحث زائر في معهد كارنيغي يوروب إلى أنه يمكن تفسير موقف أردوغان تجاه ناغورني قره باغ من خلال العلاقات العاطفية والهوية الوثيقة التي تربط تركيا وأذربيجان.

ومن الناحية الثقافية، يتحدث الأتراك والأذريون لغات وثيقة الصلة ويعتبرون أنفسهم جزءا من عائلة تركية أكبر تمتد على طول الطريق إلى آسيا الوسطى، وبالإضافة إلى ذلك، كانت تركيا حازمة في انتقادها لموقف المجتمع الدولي.

وما يحفز تركيا على المضي قدما في ما يتعلق ناغورني قره باغ اعتمادها على واردات الغاز من أذربيجان، والتي قفزت بنسبة 23 في المئة في النصف الأول من العام الجاري. ولكن هذا لا يبدو كافيا، ولذلك وضع مراقبون زيارة أردوغان إلى الدوحة الأربعاء الماضي، في خانة بحثه عن تمويل قطري جديد يغذي نهمه باتجاه ما يراه الرئيس التركي أنه جزء من سعي بلاده لنيل “المكانة التي تستحقها في النظام العالمي”.

وتعزز الأرقام الرسمية النظرة الشمولية حول ما يفعله أردوغان بأموال الدولة ومدخرات الأتراك، فقد قفز الإنفاق الدفاعي للبلاد بنسبة 17 في المئة منذ بداية العام الحالي ليصل إلى سبعة مليارات دولار، أي ما يعادل قرابة خمسة في المئة من إجمالي الإنفاق في الموازنة السنوية.

ورغم أن الميزانية العسكرية زادت بما يقارب 90 في المئة على مدار عشر سنوات وقد تزيد هذه المرة مع غموض الوضع في إقليم قره باغ الانفصالي، لكن مسؤولا عسكريا قال لوكالة رويترز في وقت سابق هذا الأسبوع إن الحملات العسكرية الخارجية مثل العمليات التي تنفذها تركيا في شمال سوريا والعراق وفي ليبيا تمثل أولوية لأردوغان.

سياسة إثبات القوة

كل الصراعات التي تدخل فيها أردوغان تعزز الإحساس بأن تركيا بلد تحت الحصار سواء عن حق أو عن باطل

يعمل اندفاع تركيا نحو كل بؤرة توتر تظهر في العالم إلى الإيهام بأنها قوة يجب أن يحسب لها ألف حساب مستقبلا من أجل إحداث تغيير في الجغرافيا السياسية عبر التوسع عسكريا مهما كانت الأساليب، ولكن طبيعة الدولة التركية، التي تستمد أيديولوجيتها من تيار الإسلام السياسي يجعل الأمر أشبه بمغامرة انتحارية لا أحد يتوقع كيف ستنتهي.

ورغم أن أردوغان تحدث مرارا عن ضرورة معالجة قضية جرائم الإبادة الجماعية بحق الأرمن خلال مطلع القرن العشرين وتناوله بعيدا عن الصراعات والمصالح السياسية، إلا أنّه يتخذ تلك الدعوات كمحاولات للتحايل على التاريخ، ولذلك بتدخله في الصراع الأذري-الأرمني يطمس حقيقة مساعيه نحو التسوية ويثبت أنه لديه الجرأة في حل هذه الأزمة بطريقته.

وعقب انهيار الاتحاد السوفييتي، تحول الصراع في الأراضي الأذرية إلى صراع مسلح بين أذربيجان وأرمينيا في 1991 وانتهى باحتلال المنطقة وحتى المناطق المجاورة الإضافية من قبل الوحدات الأرمنية، مما أدى إلى نزوح ما يقرب من مليون شخص وأجبر تركيا على إغلاق حدودها مع أرمينيا في عام 1993.

ومنذ نهاية الحرب الباردة، ردت الأمم المتحدة والقوى الغربية مرارا على محاولات الدول القومية مثل العراق في عهد الرئيس صدام حسين أو روسيا في عهد الرئيس فلاديمير بوتين للاستيلاء على الأراضي بالقوة، ولكن أنقرة تؤكد أنه في حالة ناغورني قره باغ، كان موقف المجتمع الدولي يتسم بالكيل بمكيالين.

وهذا الموقف أكده العديد من السياسيين الأتراك منذ اندلاع الأزمة في قره باغ، حيث يرون أنه لا الجائحة ولا تدهور الميزانية سيكونان عائقا أمام الإنفاق الدفاعي بالرغم أنه ليس أمرا مفضلا ولكنه اضطراري لأن تركيا لا يمكن أن تفكر بعقلية “الصغار” في ساحة تجمع قوى مثل الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا.

ويؤكد غالب دالاي الباحث الزميل بأكاديمية روبرت بوش أن منطق تركيا في كل أركان الخارطة هو إحداث الاضطراب وأي شيء يهدم الوضع القائم مفيد في ذلك لأن الوضع القائم السابق كان يبدو لها معاكسا لمصالحها.

ومن هذا المنطق تريد تركيا تقويض لعبة الصراع المتجمد الذي ظل فيه إقليم ناغورني قره باغ في أيد أرمنية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي حتى إذا لم تكن تستطيع أن تتحكم فيها بالكامل وذلك في ضوء نفوذ روسيا التقليدي في المنطقة.

ويرتكز مراقبون سياسيون على نقاط مفصلية في تمسك أردوغان بخططه لأن الموقف التركي متمثلا في إطلاق تهديد ضمني لأرمينيا ورسالة تحذير لروسيا التي تربطها بأرمينيا اتفاقية دفاعية يعكس ثقة في حرب الطائرات المسيرة التي استخدمتها في سوريا وليبيا والعراق.

وساعد استعراض العضلات في مناطق أخرى من العالم حزب العدالة والتنمية المتحالف مع القوميين في الاحتفاظ بالتفوق في استطلاعات الرأي رغم انخفاض قيمة العملة، الذي تسبب في تفاقم التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا.

وقد زاد مستوى رضا الأتراك عن أداء أردوغان بحوالي خمسة في المئة تقريبا الشهر الماضي، بحسب استطلاعات مجموعة متروبول للأبحاث بعد مواجهة مع الاتحاد الأوروبي بسبب الحقوق الإقليمية في البحر المتوسط.

ولذلك يرى أولغن أن كل هذه الصراعات الدائرة تعزز الإحساس بأن تركيا بلد تحت الحصار سواء عن حق أو عن باطل، لكن في النهاية الاقتصاد هو الذي يحدد التنافس السياسي.

7